عندما تنضج أية سوق من أسواق السلع والخدمات في أي اقتصاد، ويكبر حجم التعامل وعدد المتعاملين فيها، ويتَّسع تأثيرها، فإنه يجب حينها ضَبطُ هذه السوق، بتنظيم أدواتها ومعاييرها وأنظمتها وطريقة العمل فيها، وإلا سادتها الفوضى. سوق الإعلان التجاري السعودية تُعدُّ الآن أكبر سوق إعلانية في العالَم العربي بِلا منازِع، إذ اقترب حجم الإنفاق الإعلاني فيها من حاجز 14 مليار دولار في 2010م. وهو رقم ضخم مؤهَّل للتصاعد، يعكس جاذبية السوق السعودية للمنتجين المحليين والدوليين، ويعكس أيضاً القوة الشرائية الكبيرة التي يمتلكها المستهلِك السعودي، والتي يراهِن عليها المُعلِن بميزانيةٍ ضخمة دون تردد. غير أن قوة المستهلِك السعودي الشرائية لم تقابلها قوة في الأنظمة والمعايير المتبعة في الصناعة الإعلانية، بحيث تضمن توفير إعلان يحمي حقوق المستهلِك، ويفي بالمتطلبات الأساسية لأخلاقيات العمل التجاري. فبتنا نرى أنواعاً وأشكالاً من التضليل والخداع والكذب على هيئة إعلانات تجارية توجّهها الشركات إلى المستهلِكين جهاراً نهاراً، دون محاسبة. إننا في حاجة فعلية إلى هيئة مستقلة، يدير دفتها قانونيون متمرّسون لا علاقة لهم بغرف التجارة ولا دهاليزها، مهمتها الأساسية تنظيم سوق الإعلان وصياغة ميثاق عام للإعلان التجاري تلتزم فيه جميع الشركات العاملة في المملكة التي تستهدف المستهلِك المحلي بالامتثال لمجموعة من الضوابط والأسس عند صياغة وتوجيه رسائلها الإعلانية عبر أية وسيلة إعلامية متاحة محليِّاً، تقليديةً كانت أم إلكترونية. الإعلان وسيلة إبداعية جميلة ومشوّقة، لا يستطيع أي اقتصاد حديث أن ينهضَ إلا بمساعدته، لأنه يؤدي دوراً رئيساً في تسهيل التقاء البائعين بالمشترين وحدوث تبادل المنافع بينهم. لكن هذا الجمال والإبداع يحتاج إلى «إطار» تنظيمي يحفظه ويحميه، ويُعلي من قيمته، ويزيد من فاعليته. نتمنى أن نرى «لوحة الإعلان» قريباً من خلال هذا الإطار.إننا لسنا في الواقع بحاجة للبدء من الصفر، أو إعادة اختراع العجَلة، فهناك هيئات دولية عريقة موجودة تعمل في المجال ذاته، وكل ما علينا فعله هو استنساخ طريقة عملها وأنظمتها، بعد تكييفها مع متطلبات بيئاتنا القانونية والتجارية والثقافية. وأشهر هذه الهيئات هي هيئة المعايير الإعلانية البريطانية (ASA)، وهي جهاز تنظيمي مهمته الأساسية «لا تقتصر فقط على ضمان استمتاع المستهلِك بالإعلان التجاري، بل وزيادة ثقته فيه أيضاً»، كما ينصُّ موقع الهيئة بإبداعٍ على ذلك. الواقع يقول إن المستهلِك لدينا فَقَد الثقة في الإعلان التجاري، فكثيراً ما نسمع في مجالسنا مقولة: «لا تُصدِّق ما تقوله الإعلانات!». وهذا واقع نعيشه للأسف، فكم مرةً نقرأ ونسمع ونرى وعوداً لشركات عديدة في إعلاناتها، لا تتحقق إلا في إعلاناتها فقط. شركات الاتصالات تعلن عن سرعات خيالية للإنترنت، ولا نحسذُ بها أبداً عند اشتراكنا! مطاعم شهيرة تعلن عن وجباتها، فنرى حجم «الساندويتش» كبيراً ومغرياً في الصورة، وعندما نشتريه، نُفاجأ بتقلص حجمه إلى النصف! بنوك تعلن عن منزل العُمْر وسيارة الأحلام وتنجح في اجتذابنا، وعندما نزورها نُفاجأ بشروط تعجيزية لم يوضِّحها الإعلان! في بريطانيا، أصدرت هيئة المعايير الإعلانية (ASA) قراراً يمنع إعلاناً لمنتَج يعالج التجاعيد البادية على الوجه جرّاء تقدُّم العُمْر تظهر فيه صورة للممثلة «جوليا روبرتس»، وذلك بسبب التلاعب بصورة الممثلة وإخفاء عيوب وجهها باستخدام برنامج معالجة الصور «فوتوشوب»! وهذا ما رأت فيه الهيئة خداعاً وتضليلاً للمستهلِك، لأن فيه مبالغة بقدرة المنتَج المُعلَن عنه على إزالة التجاعيد. كما منعت الهيئة البريطانية ذاتها بث إعلان تليفزيوني لجهاز «أبل آي فون»، وذلك بداعي تضخيمه للسرعة التي يتمتع بها الجهاز، بعد أن تلقَّت الهيئة شكاوى من 17 مستهلِكاً قالوا إن هذا الإعلان خدعهم فيما يتعلق بسرعة الجهاز. ومنعت هذه الهيئة أيضاً إعلاناً تليفزيونياً لعطر تظهر فيه المغنية الأمريكية «بيونسيه»، بعد أن تلقت شكاوى العديد من أولياء الأمور يستنكرون فيها ما يحمله الإعلان من عُري وإيحاءات لا أخلاقية. إن لدينا في الواقع مجموعة كبيرة من التعليمات والتنظيمات الخاصة بالإعلانات التجارية، غير أنها متناثرة هنا وهناك، ولا وجود لجهة تنظيمية واحدة ترصدها وتتابع تطبيقها. أذكر منها تعميم وزارة الصحة عدم الإعلان عن أية مؤسسات صحية أو منتجات طبية إلا بعد أخذ تصريح منها، وقرار هيئة الغذاء والدواء بمنع استخدام الادِّعاءات الصحية لترويج المنتجات الغذائية إلا بعد تقديم أسانيد علمية موثَّقة تثبتها، وتعليمات الحملات الانتخابية البلدية التي تحظر استخدام الرسائل النصية والوسائط من قبل المرشحين لانتخابات أعضاء المجالس البلدية في حملاتهم الانتخابية، وقرار منع عرض إعلانات السجائر في الملاعب الرياضية وقنوات ومطبوعات ومرافق الدولة.. وغير ذلك الكثير من القرارات والتعليمات. إن من شأن إنشاء هيئة مستقلة لتنظيم سوق الإعلان العمل على ملفات كبيرة مفيدة أخرى غير معايير صناعة الإعلان، مثل ملف توطين الوظائف في هذا القطاع، وملف تنظيم عمل وكالات الإعلان والوسائل الإعلامية وتأمين عدالة المنافسة، وملف تأهيل الإبداع الإعلاني المحلي والنهوض به ومكافأته، وملف إيجاد وسائل جديدة تساعد على اتساع حجم هذه السوق وعلاج المشكلات التي تعرقل نموها. الإعلان وسيلة إبداعية جميلة ومشوّقة، لا يستطيع أي اقتصاد حديث أن ينهضَ إلا بمساعدته، لأنه يؤدي دوراً رئيساً في تسهيل التقاء البائعين بالمشترين وحدوث تبادل المنافع بينهم. لكن هذا الجمال والإبداع يحتاج إلى «إطار» تنظيمي يحفظه ويحميه، ويُعلي من قيمته، ويزيد من فاعليته. نتمنى أن نرى «لوحة الإعلان» قريباً من خلال هذا الإطار. [email protected]