أيام مضت وسنون تصرمت وأحوال تقلبت، أفلت نجوم أعوام الغربة، وأطلت برأسها بين غياهب الزمن بثوب قشيب، أحداث جديدة بتجدد الدهر الذي لا ينقضي. عدنا من حيث ارتحلنا، ورأيت اختلافا كثيرا، كنا هناك نعيش روح المجاهدة الصغرى في كل وقت، وحين نستشعر الاعتزاز بالدين والتميز في العبادات والعادات؛ كنا نلقن أبناءنا الاعتداد بالذات الإسلامية، وشعارنا في ذلك (لكم دينكم ولي دين). وها نحن عدنا؛ وصار أبناؤنا ينظرون للمجتمع بعين الناقد البصير، فلا يرون إلا أنماطا مستغربة، ونماذج شبابية أشد انجذابا للتيار الغربي مما كانوا يرونه هناك! فهناك كنا نرى التقدير متجسدا في التعامل: الاحترام، انعدام التمايز الطبقي. وهنا لا نسمع إلا سبا وشتما في وجوه العمالة الوافدة، وقلة تقدير لمعاشر النساء؛ فالمقاعد في الأسواق والمتنزهات العامة امتلأت بالجنس الخشن، والمرأة تظل تبحث لها عن مقعد تجلس إليه فلا تجد. قد يقول قائل: أين الحيادية والنظرة الموضوعية؟ بل وأين الولاء والبراء مما ذكرت؟ لكنني أقول القوم عندهم من القيم الجمالية والذوقيات في فنون التعامل ما ليس عندنا - والحق يقال-، وأنا أقصد بذلك ثقافة مجتمعاتنا الآن، ولا أتكلم عن قيمنا الإسلامية في شريعتنا الغراء، ثم إنه من عين العدل والقسط والانصاف أن نقيم المجتمعات هناك بذكر محامدهم، كما لا يخفى على أحد مخازيهم. وهذا هو النهج الذي علمه الهادي صلوات الله وسلامه عليه وآله، لتلامذته وصحبه من قادة الدنيا من أمثال: عمرو بن العاص، لن نعدم خيراً في أمتنا والخير باق فيها حتى قيام الساعة، والنماذج المشرقة تطل علينا بفخر واعتزاز كل يوم عبر جميع النوافذ، لكننا بحاجة إلى إعادة نظر وتصفية حسابات لكل ما نأتي ونذر في تربيتنا لشبابنا وفتياتنا، فهم بحاجة إلى محركات ضخمة؛ لانتشالهم من وحل التبعية والانهزامية، وبحاجة إلى تغذية راجعة متواصلة، واحتضانهم في أعشاش الالتزام المستنير بهدي نبينا خلقا وسمتا، وبحاجة إلى غربلة كل ما صدر إلينا من أصول (الإتيكيت) وإعادتها للروح الإسلامية التي نفخت فيها قبل أكثر من ألف عام. نحن بحاجة إلى تثبيت أقدام هؤلاء الأفراخ الصغار - بعد أن تفقس بيضها على ضفاف التغيير والعولمة- على أرض صلبة من التمسك بالثوابت والمسلمات؛ عندها فقط سنقول مرحبا برياح التغيير، وسنسلّم زمام مراكبنا ونطلق أشرعتنا لها.