رغم عدم وجود التعقيدات المالية الحالية، إلا أن المشاكل التي عالجها المنهج النبوي الكريم للمشكلات الاقتصادية في ذاك العهد ليست بالهينة، فإنك تتحدث عن مجتمع جديد (ثلثه قدم من مكة حافيا)، وعن خليط غريب، وعن سوق غير موجود إلا عند اليهود، وعن دولة وليدة عليها من الأحقاد ما عليها ومقاطعة اقتصاديا، ومحاصرة سياسياً وعسكرياً. إضافة إلى أن الجزيرة العربية في ذلك الوقت ثرواتها محدودة، تخلف مستشرٍ، النهب والسرقة وقطع الطريق هما أصول القوة، قبائل بدوية قائمة على التنقل والرعي، الطعام والماء غير متوفرين بكثرة، فقر مدقع، بطالة تنخر في العرب، أما عن مدينة يثرب، فغالب أهلها من ذوي الدخل المحدود، ويشتغلون في الزراعة، والسوق مسيطر عليها من قبل اليهود، ثم دخل عليها المهاجرون فزادت فقراً، فنشأت طبقة غير قليلة من الفقراء. أمام هذه المشكلات التي يصعب حلها من قبل أكبر عباقرة العصر، كيف سيحلها رسول الله - صلى الله عيه وسلم -؟ لقد استطاع النبي الكريم فعلاً أن يقضي على جميع هذه المشكلات حتى اغتنى الناس في عصر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وحتى صار جامعو الزكاة في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز لا يجدون من يقبل زكاة المال، فلننظر للعبقرية الاقتصادية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والتي قال عنها مؤلف كتاب أعظم مائة شخصية في التاريخ مايكل هارت (لو كان محمد موجودا الآن لحل مشاكل العالم وهو يرتشف قهوة الصباح): وفر النبي - صلى الله عليه وسلم - مكاناً خاصاً للفقراء سمي الصفة، ومكانه معروف إلى اليوم في المسجد النبوي الشريف، وكان هؤلاء - أهل الصفة - من فقراء المهاجرين والأنصار الذين لا يملكون قوت يومهم ولا يجدون المأوى، فكانوا يجلسون على قارعة المسجد تأملا في جمع صدقات الناس، وكان النبي - صلى الله عليهم وسلم - يحبهم ويؤانسهم وينام ويأكل معهم أحياناً، وكان يعطيهم من الغنائم ويخصص لهم من الفيء الشيء الكثير، حتى قال فيهم: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين. الأمر بالإنفاق والتصدق والتشجيع، والأحاديث مستفيضة في ذلك. محاربة أصل الفقر، وهي البطالة، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يحرص على أن يتكفف الفقراء وذوو الدخل المحدود عن السؤال، فأمر أحدهم كان يسأل بجمع الحطب وتقطيعه وبيعه، حتى اغتنى ولم يسأل بعد ذلك، وقال في ذلك: (لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره، فيتصدق منه، ويستغني به عن الناس ، خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا أفضل من اليد السفلى وابدأ بمن تعول).