ربما لا يذكر موضوع النشر في الداخل دون ان تخطر في البال حكاية هجرة مخطوطات الاعمال الابداعية والفكرية الى العواصم والمدن العربية بحثا عن فضاءات تلجأ اليها هربا مما في الداخل من صعوبات وتعقيدات تعرقل خروجها الى النور او قد تخرج اليه ولكن بعد مرورها بمرشحات تضمن خروجها بهيئة وبشكل لا نعتقد انهما يرضيان منجزيها. هجرة المنجز المحلي وبالتالي غربته عن مرجعيته وحواضنه الثقافية والاجتماعية ليست المؤشر الوحيد الى ان ثمة مشكلة نشر, فهنالك مؤشرات اخرى, وهنالك اسباب عديدة لوجود المشكلة حظيت باهتمام المثقفين المشاركين في استطلاع (اليوم). الروائي السعودي ابراهيم الناصر الحميدان يعتقد ان تفعيل صناعة الكتاب السعودي, لن يتم الا عبر المؤسسات الرسمية التي يعنيها الشأن الثقافي, ومن الضروري ان تكون هناك صيغة للعمل الجماعي فيما بين الاندية الادبية وبعضها البعض, كأن تعمل هذه الاندية على اقامة دار نشر كبرى لصناعة الكتاب الثقافي, تطبعه, وتسعى لتوزيعه, وتشارك به في المعارض العربية والدولية للكتاب, وقد طرحت هذه الفكرة على الاجتماعات العامة التي تعقدها الاندية الادبية سنويا, لكن هذه الفكرة لم تحدث لديهم اي صدى لاسباب لا اعرفها. الدكتور سلطان القحطاني يرى ان مشكلة توزيع الكتاب هي لب المشاكل التي تواجه صناعة الكتاب السعودي, ويقول: التوزيع لدينا لا يزال رديئا ولم يهتم بالكتاب الثقافي ولا العلمي مثل اهتمامه بالصحف او المجلات, اضافة الى الكتب الاستهلاكية الاخرى, وهذا يعود الى ان الناشر لدينا يفكر بشكل تجاري بحت, والمقاييس لديه لا تختلف عن موزع المواد التموينية, فنحن نحتاج الى ناشرين تكون قضيتهم الاولى هي نشر الثقافة ومع نشرها سيحقق هذا الناشر الربح الذي يطمح اليه, بمعنى انه يقدم هدف الثقافة على هدف التجارة, لكن ما يحدث لدينا هو العكس, ولان توزيع الكتاب الثقافي سيئ, يخشى الناشر خوض تجربة صناعته, وحتى التوزيع يضع افتراضات مثل ان القارئ لا يهتم بالكتاب الثقافي, ومن هنا نجد انفسنا امام مشكلة الوعي نفسها, او مشكلة التعاطي مع العمل الثقافي الجاد, فالناشر والموزع يقيس الامور بمنطق تجاري, ويفترض ان الكتاب الثقافي لابد ان يحقق له ما يحققه اي كتاب آخر, والا فهو سلعة كاسدة ليس عليها اقبال وهذا مفهوم خاطئ لان الكتاب الثقافي الجيد يفرض نفسه لذلك يجب ان تكون المؤسسات الثقافية هي المعنية بهذا الدور, بدلا عن ان تقوم بدور الطابع فقط. الروائي احمد الدويحي قال: ان حركة النشر داخل المملكة تردت لاسباب كثيرة منها ما هو خاص ومنها ما هو غير ذلك, حيث يقول الدويحي: لا توجد لدينا دور نشر يعنيها الهم الثقافي فكل دور النشر الكبرى لدينا ليس لها علاقة بالشأن الثقافي الحقيقي, والناشرون اصبحوا زبائن على الأبواب يقفون للحصول على مناقصات النشر وطباعة المطبوعات التي تحقق لهم ارباحا قد تتجاوز ثلاثة اضعاف ما يمكن ان يحققه لهم كتاب ثقافي ان وجد, وهؤلاء الناشرون ايضا تغريهم طباعة الكتب الجامعية او الدراسية بشكل عام لانهم يعرفون جيدا ان (الدكاترة) سيفرضون على طلابهم شراء كتبهم, وبالتالي هم لايبحثون عن كتاب ثقافي هامش الربح فيه ويقول الروائي يوسف المحيميد: فيما يخص صناعة الكتاب في المملكة اظن اننا نعاني مشكلة مزمنة تتمثل في عدم وجود الناشر والموزع الجيد, فالناشر في الغالب مشغول بكتب اعلامية ودعائية مدعومة, او الكتيبات الصغيرة المجانية او (ام ريالين)! او كتب الفرقعات والعناوين الساذجة, اما شركات التوزيع فهي تسعى وراء المال والكسب السريع, وذلك بتوزيع الجرائد اليومية والمجلات الملونة, في حين تبقى كتب الابداع والادب والفكر من قبيل البضاعة الكاسدة في نظر هؤلاء الناشرين! اذا وضع النشر في المملكة وضع استثنائي مضحك ، وهذه الحالات العبثية لدى الناشر والموزع تنسحب بالتالي على المطابع التي تنهمك صيفا بطباعة بطاقات الافراح، وفي الشتاء تنتج كراتين الحليب واللبن، والجداول المدرسية!. بينما يكون الأديب كمن جاء من كوكب آخر حين يسأل مطبعة ما عما اذا كانت لديهم تجارب في طباعة كتب من قبل. ويرى الشاعر د. زاهر عثمان أن حركة النشر تحتل جانبا من الهم الثقافي الأشمل، ولهذا فيصعب بحثها كقضية منفصلة رغم ما يبدو من إمكانية ذلك باعتبارها تعنى بالجانب الممكن لمسه لوضوح عناصره من مؤلِّف وناشر ومُنتج نهائي وما بينها من مراحل. ولا شك أن حركة النشر هي المرآة التي ينعكس عليها الواقع الثقافي رغم أنها تتحمل نيابة عنه في كثير من الأحوال كثيرا من المسئولية وبالتالي كثيرا من اللوم. ويرثي د. زاهر عثمان حال القراءة المتولدة من حركة النشر ويصفها بالانحدار ويقول: لا يزال الكتاب يحتل لدينا جزءا كبيرا من العاطفة. إلا أن ذلك لا يكفي. ويبدو أننا ننحدر كأمة في الابتعاد عن القراءة.. هاهو معرض فرانكفورت للكتاب يُكرِّم الكتاب العربي باختياره إطارا للمعرض القادم.. ومازالت الدول العربية تُبرز إلى السطح كثيرا من عقدها الثقافية والتي حدت بمسئولي المعرض مذهولين إلى تقليص حجمه مع ما ظهر من عدم قدرة على التفاعل معه وإدراك أهميته كأحد أهم معارض الكتاب على المستوى العالمي. أتطلع حالما إلى قيام دور النشر والمؤسسات الثقافية المعنية بلعب دور أكثر تأثيرا من خلال تقديم إنتاج يضيف إلى الساحة الثقافية جديدا ويتعامل مع توسع الأفق المعلوماتي للمتلقين. كما أتطلع إلى وجود سبل تدعم حركة النشر لعل من ضمنها تفعيل ما كانت تقوم به وزارة الإعلام من مساندة مادية للمؤلفين والناشرين. الشاعر يحيى الأمير، يرى ان صناعة الكتاب الثقافي، وحركة النشر الثقافي بشكل عام داخل المملكة، اذا ما قورنت بالبلدان العربية الاخرى فسنجد انها متردية بشكل كبير ويقول : الطباعة داخل المملكة تتحرك في جهتين، اما ان يطبع الكاتب لدى مؤسسة رسمية، واما ان يطبع بشكل خاص، الطباعة بشكل خاص غالبا ما تكون في دار منزوية، حيث لا توجد عندنا دور نشر كبيرة. ويضيف الامير قائلا: وليس صحيحا ان سعر الكتاب جزء من مشكلة عدم رواج الكتاب الثقافي، فكتاب (حكاية الحداثة) للغذامي يباع بثمانية وعشرين ريالا، بينما هناك كتب عن الطبخ والتجميل اسعارها تتجاوز المائة ريال. تفاؤل ويقول الناقد والقاص ناصر الجاسم: لقد بدأ نظام المطبوعات والنشر في المملكة العربية السعودية منذ صدوره حتى سنين قليلة خلت ملائما جدا للمناخ الثقافي في الوطن ومحافظا على الامن الفكري وضابطا للامن الاجتماعي ومحققا للخصوصية السعودية التي عرفنا الآخرون بها لسنوات طوال، ومراعيا للتعددية الثقافية في الوطن ومتسقا مع واقعنا الاجتماعي من حيث اننا مجتمع ديني قبلي محافظ يكثر فيه الانغلاق ويقل فيه الانفتاح ، ولكن هذا النظام رغم مثاليته فهو ضد الطبيعة الانسانية، وقاس جدا على الذهنية الابداعية لافتقاره الى المرونة، والى التجديد، ولان القائمين عليه والمتماشين مع لوائحه صاروا نظاميين اكثر من النظام نفسه، فكانت النتيجة ازدهار حركة النشر الادبي في الداخل وغياب الانتاج السينمائي في الداخل ايضا، في حين بقينا كأفراد مثقفين نمتلك طاقات ابداعية ادبية وفنية غير مستثمرة في الداخل بسبب نظام المطبوعات والنشر الصارم القاطع. ويبدو الجاسم متفائلا بقدوم حركة نشر ادبي في البلاد، مشيرا الى ان طوق الرقابة المتين الخيوط سينفتل، وان الرياضوجدة والدمام ستصبح عواصم نشر عربية لا نقل شأنا عن بيروت وبغداد والقاهرة والرباط ودمشق، وفسر هذا التفاؤل بقوله اتفاءل الى هذا الحد وكذلك المتغيرات الايجابية التي يشهدها الوطن في مجالات عدة، والانفتاح المتأمل ازدياده ، وكذلك جاهزية المناخ التجاري لدينا في الوطن حيث المطابع الكثيرة واسعار الورق المعقولة، وكذلك اسعار الاحبار، ووجود العمالة الوطنية المدربة من الفنيين في الطباعة والاخراج ووجود عدد كبير من الادباء السعوديين جل انتاجاتهم الادبية مخطوطة، ووجود عدد من الادباء السعوديين لايثقون بالنشر خارج المملكة بعد تجارب خاضوها فخدعوا فيها وخسروا! ويقول القاص عبدالعزيز الصقعبي: لا توجد حركة نشر في المملكة. وبعكس الجاسم فالصقعبي متشائم جدا من حركة النشر ويقول : ان ما يصدر عن دور النشر المختلفة والأندية الأدبية ممارسات عشوائية ،ودعوني أحدد أهم الملاحظات حول ما ينشر في المملكة، فمن حيث المضمون فغالباً لا نجد ضوابط لما ينشر فأحياناً نجد بعض الكتب تحقق مبيعات كبيرة وهي مجرد تجميع من مقولات وإستشهادات و طرائف ونوادر جمعها المعد من أمهات الكتب العربية والكتب التراثية ، وهنالك بعض الكتب التي تنشر بعيداً عن المنهج العلمي "وربما سبب ذلك عدم وجود مجلس أعلى للثقافة والفنون والآداب" لذا فغالباً تكون أفكار تلك الكتب ضحلة لا تفيد القارئ، نأتي إلى جانب آخر وهو ما استنته بعض دور النشر من التركيز على طباعة كتب التوعية والإرشاد أملاً في أن يتبرع أهل الخير بشراء أكبر قدر من تلك الإصدارات بأمل الكسب المادي، إضافة إلى أن هنالك بعض دور النشر التي وجدت أمور النساء والعلاقات العاطفية والأسرية وأمور الطبخ وسيلة لترويج إصداراتها فاتجهت إلى العناوين الصارخة لإصداراتها وحققت حضوراً في الأسواق. القاص عبدالله الوصالي يقول ان حركة النشر، في أي مجتمع، هي حلقة من عدة حلقات تتأثر ببعضها. ومن الحلقات المؤثرة في عملية النشر الاستهلاك للكتاب لدى المستخدم الأخير أي القارئ. و هذه الحلقة ، بدورها، تتأثر بمستوى الأمية في المجتمع. ويعتبر الكتاب الذي يبيع ( 5000) نسخة اكثر الكتب رواجاً بين مستهلكين مفترضين يبلغ عددهم (270) مليونا هم عدد سكان العالم العربي.و بمقارنة بسيطة برواية (هاري بوتر) الأخيرة الذي فاق المليون نسخة نجد الفجوة الكبيرة بين الحالتين. وعن تطلعاته يقول الوصالي إن وجود المستهلك للكتاب هو الذي سيضخ الروح في عملية النشر سواءً التي يقوم عليها القطاع الخاص أم تلك المدعومة من قبل المؤسسات الحكومية كالأندية و الجمعيات. وحتى نصحح المعادلة يجب أن يتم تطوير النظام التربوي بحيث تزاد حصص القراءة و المطالعة في المدارس للتراث الأدبي العربي الحديث. مع وجود أمثلة من الإبداع المحلي المعاصر يتم تشريحها والتدرب على فهم الدلالات اللغوية. كواجب منزلي أن يحضروا في اليوم التالي ما فهموه من القصة. بمثل هذه الممارسة ستنمو لدى الطلاب ملكة النقد والتذوق. هذا هو حلمي، يجب أن نبدأ من القاعدة. ثم أتمنى أن يتلاشى هذا الحذر التقليدي من الكتاب لأن الأفكار في زمن (النت) والفضائيات أصبحت الآن عابرة للحدود. واصبح الرقيب بمقصه المثلوم حالة كوميدية. الكاتبة شريفة الشملان تقول لم تكن تجربتي الشخصية مع النشر جيدة , بل يمكن أن اصفها بانها تجربة فاشلة بامتياز , فقد بقيت الكتب في صناديقها اقدمها هدايا الا جزء صغيرا منه اشترته مني جمعية الثقافة والفنون , ولقد قلت هازئة مرة إنني سأفتح كشكا عند محلات ابو ريالين لكني رأيت انه سبقني لذلك الموقع بائع البليلة. حركة النشر عملية تجارية صرفة لا يعرفها الا الممارسون لها والذين يعرفون مداخلها ومخارجها مثلها مثل اي بضاعة أخرى, نحن نغالط انفسنا عندما نتصور أن اسماءنا ممكن أن تكون جاذبة لجمهور القراء. اسماؤنا تبقى في مكانها ان لم يأت من يقوم بعملية الاعلان عنها, وهذا الاعلان نحن نقف ضده باعتبار اننا كتاب معروفون ولنا وزننا في عالم الادب والكتابة, ثم نكتشف أن لا وزن لنا ما لم يقم أحد بتثقيل هذا الوزن. فكيف يمكن ان تضخ في السوق كتب لانراها تساوي ورقة في حين تبقى كتب قيمة لا تجد مكتبة تعرضها, صديقة لي دكتورة وتعد موضوعا ببلوغرافيا عن القصة القصيرة, سألتني, أين تجد كتبي؟ قلت لها الاول ليس لدي منه الا نسخة, (هذا مالم أقم بنشره على حسابي) وكذا الثاني, أما الثالث والرابع فسأرسل لك , لأنه ما زال في الصناديق جزء كبير منه, الآن اصدرت مجموعتي الخامسة من دار نشر ستتولى توزيعها بنفسها وبذا اخلص بيتي من صناديق تدخل المخزن. د. زاهر عثمان عبدالعزيز الصقعبي