لا يمكن الحديث عن المشروع الثقافي دون أن يكون الكتاب حاضراً، وسيظل الكتاب هو المصدر المعرفي والثقافي الأول مهما تعددت قنوات المعرفة ومهما تطورت وسائل النشر، ولا يمكن لأي مشروع ثقافي وطني أن يحقق نتائج إيجابية دون أن يلتفت لقضايا النشر والمؤلف والتوزيع ونوعية ما ينشر والفعاليات المتعلقة بالكتاب. لم يزح النشر الالكتروني الكتاب الورقي عن واجهة الصدارة، ولم تحقق تلك التجارب في النشر الالكتروني للكتاب عبر العالم نسبة مبيعات تتجاوز 1٪ مقارنة بما هو عليه الكتاب الورقي. لا يوجد ناشر عربي استطاع أن يقترب من مهمة الناشر كما هي الحال في الغرب. الناشر الغربي مشارك حقيقي في صناعة الكتاب وفي حفظ حقوق المؤلف وفي مهمة الترويج والإعلان وهو جزء من قانون إنتاج الكتاب المتمثل بثالوث الناشر والمؤلف والقارئ. النجاح الذي حققته الصحافة الالكترونية لم يكن كفيلاً بإزاحة الصحافة الورقية، إلا أنه أثر عليها حتماً، وإن كان أسهم أيضاً في انتشارها لسهولة الوصول إليها مما رفع نسبة عدد القراء وبالتالي الإعلان. الكتاب حالة أخرى لم تحقق فيه وسائل النشر الالكتروني الإزاحة المتوقعة، ولكنها ساهمت أيضاً عبر مواقعها في انتشار الكتاب الورقي وزيادة الطلب عليه، أما عربياً فلم تكن هناك سوى محاولة وحيدة لنشر الكتاب وتوزيعه الكترونياً ولم تحقق أي نجاح يذكر. مهما كانت المؤشرات عربياً حول نسبة القراءة ومبيعات الكتاب متواضعة ومقلقة، إلا أن المقارنات بالعالم الغربي قد تبدو أحياناً غير موضوعية، خاصة أن السؤال المعتمد ليس ماذا يُقرأ، ولكن ما متوسط عدد الصفحات التي يقرؤها شعب ما بغض النظر عن ماهية القراءة واتجاهاتها وعوائدها، ومهما بلغت حدة التراجع في سوق الكتاب، إلا أنه سيظل حياً ومصدراً أساسياً للمعرفة والثقافة الجادة. والثقافة الجادة عندما تتوسع مساحاتها تطرد الثقافة الرديئة والهامشية والطارئة. محلياً نحن سوق مهمة للكتاب العربي والناشر العربي، إلا أن المملكة تعاني من ضعف دور النشر، وقلة النشط منها، ناهيك أن كثيراً منها لا يمارس مهمة ناشر حتى في مستوى بعض البلاد العربية التي تشكل سوقاً مهماً لإصداراتها. في معرض الناشرين السعوديين العام الماضي، كان الحديث عن مشاركة 150 دار نشر ومكتبة، لا نعرف تحديداً كم دار نشر سعودية تمارس فعلاً مهمة نشر الكتاب بما ينطبق على مهمة ناشر، كما لا نعرف كم عدد الدور التي لها عناية بالكتاب الثقافي، وليست هناك دراسة تكشف بدقة حجم النشر ونوعيته والفئات الموجهة لها... إلا أن الانطباع العام أن هناك دور نشر قليلة ربما تعد على أصابع اليد الواحدة هي التي تمارس هذه المهمة كما يجب أن تكون. هناك معلومات تشير إلى أن عدد دور النشر المسجلة في وزارة الثقافة والإعلام يتجاوز ذلك الرقم بكثير، إلا أنه لا يوجد سوى الآحاد منها يمكن أن يقال عنها إنها دور نشر لها كيانات قادرة على الاستمرار والإنتاج وتحقيق مردود مناسب للبقاء في مهمة نشر يكاد يكون الاستمرار فيها مستحيلاً. ساهمت دور نشر عربية في رواج المؤلف السعودي، واستفادت كثيراً ولا زالت من نوعية خاصة من الكتب تتجاوز سقف المتاح للنشر عبر قوانين الرقابة في الداخل لتجد قدرتها على الحركة عربياً بلا قلق من وصول الكتاب إلى القارئ السعودي المستهدف الأول، لا يكتفي الناشر العربي ما يدره عنوان الكتاب السعودي بل يأخذ أيضاً تكاليف الطباعة من جيب المؤلف قبل النشر، وتجاوزت هذه الموجة نحو النشر خارجياً لتصل إلى بعض مؤسسات وزارة الثقافة، فأحد الأندية الأدبية بالمملكة أبرم عقداً خاصاً ليدفع مقابل نشر إصداراته في إحدى دور النشر اللبنانية. السقف المتاح لفسح الكتاب، والقدرة على التوزيع والانتشار من العوامل المهمة في توجه المؤلف السعودي نحو الخارج لطباعة كتابه رغم أنه يتحمل تكاليف النشر، وعلى الرغم من أن هذه الدور التي يحمل بعضها أسماء كبيرة لا يلتزم بسياسة نشر تحافظ على مستوى الجودة في مادة الكتاب وقيمتها الفكرية والأدبية والمعرفية، قدر ما يحافظ على عوائده مهما كانت طبيعة ما ينشر أو مستواه. وهي كتب تصل في الغالب للناشر جاهزة لا تتطلب أكثر من عملية إخراج وتصميم شكل الغلاف لتدور المطبعة تقذف بالإنتاج في دورة سريعة قد لا تعادلها سرعة إصدار كتاب حتى في بعض دور النشر العربية. لا يوجد ناشر عربي استطاع أن يقترب من مهمة الناشر كما هي الحال بالغرب. الناشر الغربي مشارك حقيقي في صناعة الكتاب وفي حفظ حقوق المؤلف وفي مهمة الترويج والإعلان، وهو جزء من قانون إنتاج الكتاب المتمثل بثالوث الناشر والمؤلف والقارئ. الناشر العربي يختار المحررين ويطلق يدهم في التعديل والتقويم والاختزال ويوقع العقود مع المبدعين والكتاب ويفرغهم ويقدم لهم مستحقاتهم كاملة غير منقوصة ويروج للكتاب ويدفع بسخاء للإعلان. هذه المهمة لا تكاد تجد لها مماثلاً في العالم العربي.. بل إن العلاقة بين المؤلف والناشر في المنطقة العربية علاقة لا تتسم باحترام العمل الإبداعي من قبل الناشر، ولا الحفاظ على حقوق المؤلف، ولا في قدرة الناشر على ممارسة دور يقترب من مهمة ناشر يقوى على البقاء والمنافسة والترويج لصناعته في وسط اجتماعي لا يشكل الكتاب جزءاً من أولوياته. يعاني الكتاب العربي عموماً من ضعف التوزيع وهامش الربح المتراجع، ويشكو الناشر كما المؤلف من معادلة النشر الصعبة في المنطقة العربية. في السوق السعودية تشير بعض المعلومات المداولة إلى أن سوق النشر يقدر بنحو مليار ريال سنوياً، وإذا صح هذا الرقم فهو يعني أن هناك سوقاً لا يمكن الاستهانة بها وبعوائدها. ومهما كانت حصة الكتاب من هذه السوق، فهي حصة مهمة لبقاء النشر صناعة تستحق أن تفعّل وأن يلتفت إليها من قبل المؤسسات المعنية بوضع المشروع الثقافي الوطني قيد الرعاية والاهتمام. صناعة الثقافة يجب ألا ينظر إليها كأي صناعة يجب أن تترك لسياسة السوق والعرض والطلب، إنها مهمة وطنية تتطلب الدعم والرعاية لأنها تدخل في بناء عقل وتكوين الإنسان، وهي أخطر سلعة وأهمها في تشكيل الشخصية الإنسانية. أما صناعة الكتاب السعودي في الداخل فستظل متعثرة لأسباب كثيرة من بينها سقف الرقابة على الكتاب الذي يضطر المؤلف للهروب للخارج للنشر، ومن بينها ضعف العوائد المتحققة نتيجة لغياب الدعم والتمويل، ومنها مشكلة التوزيع وكلفة الإعلان والترويج وهي العقبة الكبرى أمام انتشار الكتاب السعودي في الداخل. علاقة الناشر بالموزع على ضعف عملية التوزيع وتراجع صناعتها ليست بحال أفضل. ما المكتبة الكبرى التي تعتبر منفذ التوزيع الوحيد تقريباً، التي بامكانتها استقبال أكثر من 100 أو 200 نسخة من أي كتاب بعيداً عن الاعتبارات الأخرى التي تحكم علاقات لا مجال هنا لاستدعائها، وهي تحصل على حصة لا تقل عن 50٪ من سعر الغلاف. هذه التداعيات تكسر ظهر المؤلف وتصيبه بحالة من الكآبة وتخذل قدرته على الإنتاج الجاد حتى الانصراف والانهماك في هوامش العمل الثقافي لا في صلب تكوينه. وكما يعاني المؤلف فكذلك الناشر الذي ما زال ينشر بعدد أقل ونوعية يمكن تسويقها ليحظى بالبقاء ناشراً. وفي مثل هذه الأحوال التي تعبر عن نوعية ما ينشر في الداخل، وما يصل للقارئ، وما يعانيه المؤلف والناشر السعودي ألا يجب أن تضع وزارة الثقافة في صلب اهتمامها هذه القضية للخروج بمشروعات تستهدف تطوير صناعة الكتاب، وتساهم في تنويع مصادر ثقافة القارئ، وتشجع الناشر على الاستمرار في مزاولة مهنته، وتدعم مؤلفاً ما زال يعاني من غبن الناشر والموزع وتراخي الاهتمام بالإبداع. ربما يكون إنشاء هيئة أو مؤسسة عامة للكتاب أحد المداخل المناسبة لمعالجة هذا الخلل، ولهذا حديث آخر.