إحدى ضواحي مدينة نابولي، فترة الغداء والحركة في المطاعم والمقاهي العديدة على جانبي الزقاق القديم على اوجها، كنت في رحلة عمل للتفاوض مع شركة تبيع ماكينات لتصنيع مواد صحية مثل حفاضات الاطفال! اعتذرت عن دعوة الشركة للغداء فمثل هذه الدعوات مملة والاعصاب تكون مشدودة، ولان زيارتي لنابولي، التي طالما سمعت عنها وتردد اسمها في الاغاني، كانت قصيرة جدا اردت التجول في شوارعها قليلا، الايطاليون يتكلمون كثيرا وجملهم وكلماتهم طويلة والضجيج الذي يحدثونه لم يكن يقل عن ضجيج قفص مليء بطيور الجنة ولكن حيويتهم ومرحهم شجعني على الجلوس في احد المحلات وهو عبارة عن مطعم مقهى في نفس الوقت. وما دمت في نابولي تخليت عن عادتي العراقية في شرب الشاي بعد الغداء وطلبت قهوة اكسبريسو، في هذه الاثناء دخل زبون، توجه الى النادل وقال: due caffژ ,uno sospeso ان اردنا ترجمتها فستكون: اثنين قهوة، واحدة معلقة! دفع ثمن قهوتين، شرب قهوة واحدة وغادر، ولكن النادل اخذ ورقة ووضعها على مسمار مثبت فوق منضدة البار. بعدها بقليل دخل المكان اثنان من الزبائن وطلبا من النادل: tri caffژ ,uno sospeso يعني: ثلاثة قهوة، واحدة معلقة دفعا ثمن ثلاث وشربا قهوتين وغادرا المكان، النادل اخذ ورقة اخرى وعلقها على المسمار. لم استطع ان افسر هذا التصرف الايطالي الغريب مع شرب القهوة. بالطبع ما كنت لاغادر المحل بدون ان اسأل تفسيرا ولكني قررت التريث بعض الوقت. قد اكون كثيرة الفضول ولكني لست قليلة الصبر. بعد قليل دخل المقهى رجل يبدو من ملابسه الرثة انه فقير. توجه الى البار وطلب مشيرا الى قطع الورق المعلقة على المسمار: un caffژ sospeso النادل حضر قهوة ووضعها أمام الزبون الذي شرب قهوته وغادر بدون ان يدفع شيئا. أعتقد أنني بدأت فهم الأمر لأن النادل اخذ احدى الورقات المعلقة على المسمار، مزقها ورماها في المهملات . فجأة غادرني الشعور باني في مدينة غريبة ازورها لاول مرة. بقليل من المعرفة باللغة الايطالية وبكثير من المراقبة الفضولية كنت شاهدة على تقليد عريق و مدنية حقيقية لناس يتقاسمون العيش في مدينة واحدة ، تمنيت لو كان باستطاعتي ان انقل ما رأيته من هذه التربية الاجتماعية الايطالية الى مجتمعنا يوما ما. مساعدة الاخرين لا تنحصر باحتياجات المعيشة الاساسية، شرب القهوة له اهمية خاصة عند الايطاليين دونها لا يروق مزاجهم. هناك من يستطيع ان يدفع ثمن قهوة اضافية لشخص ما لا يستطيع ان يشتري لنفسه فنجان قهوة و بدون الحاجة لان يعرف من هو هذا الشخص، تحفظ للفقير كبرياءه وهو ايضا لا يحتاج ان يسأل رجل البار: هل هناك قهوة مجانية لي؟ لانه يرى الأوراق المعلقة على المسمار، والنادل هو الجسر بين المحتاج والمتمكن وهو يقدم خدمته بوجه باسم وبدون تمييز في المعاملة. شعرت بارتياح بأن قراري كان صائبا لعدم تلبيتي دعوة الشركة بتناول الغداء معهم. طبعا لم تغب عن النادل مراقبتي عن كثب لجريان الامور. فسألني ان كنت استمتعت بقهوتي، بالطبع استمتعت، وعند مغادرتي قررت المجازفة بجملة ايطالية: due caffژ ; uno sospeso دفعت اجرة قهوة إضافية لدعم هذا التقليد اللطيف. * مهندسة ومديرة عامة عراقية (عن يديعوت أحرونوت)