"لا يكفي أن يقال انّ ليبيا تعيش اليوم ومنذ استيلاء انقلاب سبتمبر 1969 على مقدراتها، واقعاً مأساوياً كارثياً ازداد مع السنوات سوءاً وتفاقماً، ولكن ينبغي أن يتمّ التأكيد في الوقت نفسه على أنّ هذا الواقع هو من صنع العقيد القذافي، وهو نتاج توجّهاته وسياساته وممارساته، وأنّه هو المسؤول الأول والرئيسي عنه".عرضنا في الحلقة الأولى لأهمّ الحقائق المتعلّقة بواقع الشعب الليبي في ظلّ العهد الملكي الذي امتدّ قرابة ثمانية عشر عاماً. وسنواصل في هذه الحلقة تناول عدد من الحقائق الثابتة الأخرى وذلك كمدخل ضروري لموضوع هذه المقالات.. (ب) تطلّعات وأماني الشعب الليبي في أواخر العهد الملكي لا يعنينا في هذا المقام أن نناقش ما إذا كان الشعب الليبي راغباً في تغيير النظام الملكي أم لم يكن، وما إذا كان الشعب الليبي بكافّة فئاته المدنية والعسكرية يملك مقوّمات إحداث التغيير أم لا .. ولكن ما يهمّنا في هذا المقام أن نؤكّد أنّ أماني وتطلّعات الشعب الليبي خلال تلك الحقبة من تاريخه كانت تتمثّل في الآتي: تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية، ومن الحرّية والمشاركة السياسية في ظلّ الدستور والضمانات القانونية، وتحقيق النزاهة في الانتخابات التشريعية العامة. تحقيق المزيد من الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي. استعجال توظيف العائدات النفطية في تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يعود على كافّة الليبيّين بالمزيد من الرخاء والرفاهية والتقدّم ومن توفير الخدمات التعليمية والصحية، ومن رفع مستوى المعيشة للجميع، وبما يحقّق لليبيا مصادر دخل بديلة تستطيع الاعتماد عليها عندما تنضب الموارد النفطية. وضع حدّ لصور التبذير والإسراف والتلاعب بالمال العام ومحاربة الفساد المالي والتسيّب الإداري. تحقيق المزيد من التحرّر من التبعية السياسية والاقتصادية، وتحقيق المزيد من العلاقات الطيبة مع الجيران والأشقاء، والمزيد من المساهمة الفعّالة من أجل خدمة القضايا المصيرية العادلة للأمّة العربية والإسلامية وللقارة الأفريقية، وتحقيق المزيد من التعاون والعلاقات البنّاءة مع بقية أعضاء الأسرة الدولية. تِلكم كانت تطلّعات الشعب الليبي وأمانيه خلال تلك الفترة من تاريخه وفقاً لما تدلّ عليه كافّة الوثائق والمذكرات والمطالبات والمناشدات التي صدرت عن مختلف القوى والهيئات والشخصيات والزعامات الوطنية يومذاك. (ج) الوعود التي أطلقها انقلابيو سبتمبر من المهمّ أيضاً أن نثبّت الحقائق التالية بشأن الوعود المبكّرة التي أطلقها انقلابيو سبتمبر خلال الأيام والأشهر الأولى لاستيلائهم على الحكم في البلاد، وهي الوعود التي جعلت فئات كثيرة من الشعب الليبي ترحّب بهم وتمنح بعض الشرعية لحركتهم الانقلابية. ويمكن تلخيص هذه الوعود من خلال مطالعة ما ورد في البيان الأول للانقلابيين في الآتي: الإطاحة بالنظام الرجعي المتخلّف والمتعفّن وبعهد الرجعية والرشوة والوساطة والمحسوبية والخيانة والغدر. السير بليبيا في طريق العمل والعُلا والحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية، كافلة لأبنائها حقّ المساواة فاتحة أمامه أبواب العمل الشريف. بناء مجتمع ترفرف عليه رايات الرخاء والمساواة حيث لا مهضوم ولا مغبون ولا مظلوم ولا سيّد ولا مسود بل الجميع إخوة أحرار. الوقوف صفّاً واحداً ضدّ عدوّ الأمَّة العربية، عدوّ الإسلام، عدوّ الإنسانية الذي أحرق مقدساتنا وحطّم شرفنا. السير بليبيا في طريق بناء المجد وإحياء التراث والثأر للكرامة التي جُرحت والحقّ الذي اغتصب. وقد أضاف الملازم القذافي إلى هذه الوعود، من خلال خطبه وتصريحاته وبياناته التي ألقاها خلال الأشهر الأولى للانقلاب، الوعود التالية: 1- توجيه إيرادات ليبيا لخدمة مصلحة شعبها. 2- توجيه الجزء الأكبر من إيرادات البلاد نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أجل: @@ إحداث ثورة زراعية تحقّق الاكتفاء الذاتي. @@ إحداث ثورة صناعية تمكّن البلاد من التحرّر من الاعتماد على النفط كمصدر وحيد لدخلها. 3- تحقيق ثورة إدارية تهدف إلى القضاء على المكتبية وإعادة تنظيم الجهاز الإداري للدولة. 4- تحقيق العدالة الاجتماعية. 5- بناء قوات مسلحة تهدف إلى حماية مكاسب الشعب. إذن، كانت تلكم هي الوعود التي أطلقها الانقلابيون منذ استيلائهم على السلطة في البلاد في الأول من سبتمبر 1969، ولا بدّ من التأكيد على أنّ هذه الوعود لم تتضمّن لا تصريحاً ولا تلميحاً: أيّة وعود بإحداث تحوّلات تاريخية وثورية خطيرة محلية وقومية وأممية وتوظيف كافّة مقدّرات الشعب الليبي من أجل إنجاز تلك التحوّلات. أيّة وعود بتصدير الثورة وبأن يخوض الانقلابيون باسم الليبيّين ونيابة عنهم، وباسم كافّة القوى التقدّمية والثورية في العالم، معارك وحروباً متواصلة مع الخيانة ومع الرجعية ومع الاستعمار والإمبريالية ليس داخل ليبيا فحسب ولكن على امتداد العالم العربي كلّه بل في كلّ مكان من العالم. أيّة وعود ببناء ترسانة سلاح ضخمة حتى لو استدعى الأمر أن يلتهم بناؤها قرابة 40% من عائدات ليبيا النفطية وأن يحشد لها كافّة أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بما فيها الأسلحة ذات الدمار الشامل. أيّة وعود بتأليف نظرية عالمية تقدّم الحلّ الوحيد والشامل والنهائي لكافّة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم وتقف ندّاً للنظرية الرأسمالية والنظرية الشيوعية. وأيّة وعود بترجمة هذه النظرية إلى كافّة لغات الدنيا على حساب الشعب الليبي وبأمواله من أجل أن تصل فائدة هذه النظرية إلى شعوب الأرض كافّة. إذن وقد فرغنا في هاتين الحلقتين من بيان واقع الشعب الليبي في ظلّ العهد الملكي حتى الأول من سبتمبر 1969، وبيان أماني وتطلّعات الليبيّين مع اختلاف فئاتهم ومشاربهم وتوجّهاتهم في تلك الآونة، وبيان الوعود التي أطلقها انقلابيو سبتمبر وتعهّدوا للشعب الليبي بإنجازها وتحقيقها باعتبار ذلك سبب حركتهم ومبرّرها.. سوف نتناول في الحلقة التالية بيان المآل الكارثي والمأساوي الأسيف الذي آلت إليه أوضاع ليبيا وشعبها بعد مرور 34 عاماً في ظلّ انقلاب سبتمبر، وهو ما أشرت إليه في بداية هذه الحلقات بالجريمة. @@ رئيس ديوان المحاسبة الأسبق وسفير ليبيا الأسبق لدى الهند