عيد الناصر نص (عابر سرير) كثيرا ما يلتفت الى مرحلة السبعينات ارتكاز، مرحلة الأحلام الجميلة، مرحلة الثورة و العطاء، مرحلة بناء الجزائر الجديدة. نقرأ على الصفحة 43 قول بطل الرواية عن السبعينيات ما يلي: (يحدث أن أحن الى جزائر السبعينيات. كنا في العشرين، وكان العالم لا يتجاوز افق حينا، لكننا كنا نعتقد ان العالم كله كان يحسدنا. فقد كنا نصدر الثورة و الأحلام, لأناس ما زالوا منبهرين بشعب أعزل ركعت أمامه فرنسا.). ولكن لماذا يتم هذا الالتفات ؟ هذه المقاربة تحاول العبور من خلال شفرات عنوان النص الى دلالته و ربما الأجواء التي أفرزته، و بكل ما تحملة كلمتا (سرير) و(سبيل) من دلالات متداخلة. و لكن، هل يصلح عنوان النص أن يكون مفتاحا للمرور عبر أنواع الأسرة المفروشة في هذا النص؟ ربما، و لكن لنحاول ذلك. (الدهشة) هي أول ما يشد الناظر لعنوان هذه الرواية. و لكن ما الدهشة يا ترى؟ في رأيي الدهشة هي أشبه بالصعقة السريعة التي تعتريك حين يفاجئك شيئ خلت لفترة طويلة أنك تعرفه الى الحد الذي لا يخطر ببالك رؤيته بشكل مختلف عما نمطته لك الذاكرة بكل مرجعياتها. مدهش حين نقرأ تصوير السياب لظل الطائر المحلق بالصليب، أو تحويل حديد الأسرة الى أسلحة للقتل و الدمار، وكذلك مدهش عنوان هذه الرواية. وسر الدهشه هو التركيب البسيط المخادع للعنوان حيث تم توظيف النص اللغوي التاريخي (عابر سبيل) بما يشبه عملية الكولاج، حيث تم لصق كلمة (سرير) فوق كلمة (سبيل) بخامة شفافة تسمح بمرور الضوء و تبادل الأدوار بين هذه الكلمات خلال مسارات النص و تعرجاته. و أصبح السرير بطل الرواية قبل أن يلج القاريء الى صفحاتها. ثلاث كلمات شكلت عنوان هذا النص و ان ظهرت منهم كلمتان فقط (عابر) و(سرير), ولكن بقيت الكلمة الثالثه (سبيل) موجودة بقوة صارخة. أدت هذه الكلمات الثلاث أدوارا أشبه ما تكون بلعبة الاختفاء التي لعبها و مازال يلعبها الصغار في كل زمان ومكان و التي يطلق عليها بعض أهل الخليج (الخشة). فوجود الكلمة الواحدة يفضح وجود كلمة أو أكثر، فحين تفاجئك واحدة من هذه الكلمات في احدى زوايا أو زقاق هذا النص تعرف يقينا بأن واحدة أو أكثر تختبيء في مكان ما و تنظر اليك بشيطنة وخباثة متمردة، ربما تختبيء خلف شجرة أو نخلة أو نافذة أو ربما خلف شرشف معروض للشمس. جميل هذا التنوع والتبدل والتراقص على انغام الايقاعات اللغوية بدلالاتها وايحاءاتها التي تزدادا تشظيا واشتعالا كلما لامستها العيون والعقول. في القواميس كما في الذاكرة اللاشعورية للعربي دائما ما تكون كلمة (عابر) ملازمة لكلمة (سبيل)، وهي تعنى: المسافر، وممتهن السفر هو انسان يسكنه القلق، وكثيرا ما يبحث عن موانيء قد لا يكون لها وجود الا في المخيلة الحالمة. المسافر هو انسان دائم الترحال غير مستقر مكانيا أو نفسيا، فهو دائم القلق والتوتر. و هذا القلق الغاضب، القلق الرافض لكل المرجعيات المتعارف عليها يكتسح كل مساحات النص بدون مبالغة، يقف أمامنا هذا القلق. في هذا النص المثير على أكثر من صعيد وظفت كلمة (السرير) جماليا ووظيفيا لتأخذ دلالات وايحاءات تستحق التأمل و الدراسه. فعبر هذا النص تقلبت وظائف و دلالات الكلمة من مستواها العادي و المباشر لتتلبس عدة دلالات. فمرة كان السرير درعا حمى طفل الصورة الفائزة من الموت المحقق، و حينا كان منبتا لطفولة بطل الرواية مغمورا برائحة جدته، و ثالثة تحول الى ساحة لمنازلة الحب، و رابعة تمظهر مطرحا للمرض والموت، وحينا كان زنزانة اختيارية أو اجبارية، وأخيرا تشكل في هيئة قبر، أشبه بالميناء الأخير يرفرف على فناره أشرعة بيضاء استبدلت رائحة الشانيل بالكافور. عبر هذه الرحلة القلقة يأخد بطلنا معه (سريره) اللغوي لكي يوظفه بالطريقة المطلوبه أينما و متى ما حط رحاله. فالسرير كان درعا حمت الطفل من موت محقق، نعيش هذا المعنى و نحن نقرأ على الصفحة 244 قوله: (استعدت منظر ذلك الطفل الذي أخذت له صورة، والذي قضى ليلة مختبئا تحت السرير. وعندما استيقظ في الصباح، وجد أنه فقد كل أهله، وانه أصبح يتيما الى الأبد). ربما يؤرخ بهذا المقطع الى بداية مشوار القلق وعدم الاستقرار الذي انعكس بدوره على تركيبته النفسية ومن ثم رؤيته للحياة بشكل عام. واتسعت دلالة معنى (السرير) كذلك لتعنى المكان الذي احتضن غرس النبتة النفسية الأولى، حيث نشأ وترعرع بطلنا. نقرأ في الصفحة 46 (النساء جميعهن كن يختصرن في جدتي لأبي، المرأة التي أحتضنت طفولتي ... على فراشها الأرضي، بدأت مشواري في الحياة كعابر سرير ستتلقفه الأسرة واحدا بعد الآخر حتى السرير الأخير). واحدة من التوظيفات المنتشرة في النص لكلمة (سرير) كانت البعد الجسدي، يقفز معنى الكولاج الذي أشرنا اليه سابقا، و نعرف ان كلمة (سرير) تضحك خلف هذه الكلمة، بل انها تقهقه. انها مطاردة ، اشتهاء يعكس بغضا للرتابه و الاعتيادية و يعكس حمى البحث والحراك المتوتر والقلق. اذن هنا يؤشر على الرغبة في مطاردة عابرة سبيل (سرير)، لتأخذ بعدا آخر. بالاضافة الى المعنى القاموسي للكلمة فان كلمة (السرير) كرمز حملت دلالة لجغرافية النهاية في رحلة القلق هذه، أي الموت والقبر. بعض الاحيان يأتي التعبير عن هذ النهاية بصورة عبثية و أحيانا اخرى بصورة واقعية. و يمكن القول بأن ما ورد في الصفحة 25 يمثل استخداما لتوليد معنى عبثي بصورة أو بأخرى، ففي هذ الصفحة نقرأ التالي: (لا أحب مضاجعة الموت في سرير، فقد قصدت السرير دوما لمنازلة الحب، تمجيدا للحياة، لكنه مات على السرير اياه. و ترك لي كغيره شبهة حب، واشياء لا أدري ماذا أفعل بها). انظر جمال هذه اللقطة مضاجعة الموت ... منازلة الحب. أما معنى القبر (المكان) فيمكن معايشته على الصفحة 233: (ربما كان يحتاج الى تلك الكلمات التي احتفظت بها خوفا عليه. كان يحتاج الى الحقيقة، فأعفاني من مزيد من الكذب. قرر العبور الى سريره الأخير بينما كنت أنا أشغل سريره الأول). و كذلك في الصفحة 284: (يا آلهي ، عابر سرير هو حيثما حل، فأهده راحة سريره الضيق الأخير). وهذه الهموم لم تكن بعيدة عن السياسة وأهلها و تجارها، بل كانت هي الأكثر وجعا و ايلاما في النص و حيث امتدت بصاحبنا الى كل مسارات الحياة. هكذا كان من الطبيعي ان تكون السياسة (أو نتاجاتها من سجن وتشرد واغتراب) حيث نسج لها من هذا السرير سياقا يصف حالها وحال المنفعل المتأثر بواقعها، حيث كانت أس البلى. نقرأ في الصفحة 69 (عام و نصف العام في سرير التشرد الأمني، عشت منقطعا عن العالم، أتنقل بحافلة خاصة الى ثكنة تم تحويلها لأسباب أمنية الى بيت للصحافة يضم كل المطبوعات الجزائرية باللغتين ...). خلاصة القول ان عنوان هذا النص (عابر سرير) يرتبط بشكل قوي بروح النص القلقة والمتوترة والرافضة لكل المرجعيات المتعارف عليها. ولكن هذا النص لا يطرح بدائل بشكل مباشر لما يرفضه، بل يطرح تصورا من خلال الحياة التي اختارتها شخصيات النص، وعبرت عنها لغة و ممارسة، هذا التصور الذي يتكىء بشكل مكشوف على مفاهيم الحداثة و ما بعد الحداثة الغربية. فاذا كنا نعرف أن الحداثة تقوم على الذاتية، والعقلانية، و العدمية كما يقول منظروها فان مفهوم ما بعد الحداثه كما يراها نيكلسون، فهي (مقاربات تسعى الى تجاوز التصورات العقلانية و مفهوم الذات العاقله باعتبارها تمثل أساس التقليد الفلسفي الحداثي الذي خط معالمه الأولى ديكارت و كانط)، بمعنى آخر انها التهشيم الكامل لما يمت الى العقل و العقلانية، أو المنطق، رفض المرجعيات مهما كانت صفتها ... وهذا التصور كان ثيمة النص و غايته. وهذا النص لبس حالة فردية، بل صارت هذه النصوص أشبه ما تكون بالموضة، و يستطيع القاريء أن يشم رائحة الزمن الذي ولد فيه نص (عابر سرير)، فقط التفت حولك و سوف ترى كثيرا من النصوص تعيش نفس الأجواء السياسية والاجتماعية بنسبة أو بأخرى. وأغلبها الأعم انتجتها أقلام عربية تعيش في المهجر وتعاني الافرازات السياسية في حياتها اليومية وتنعكس عليها تجارب الغرب الروائية والشعرية التي أفرزتها الحربان العالميتان الأولى والثانية. وكثير من هؤلاء الكتاب تلبسوا انتاجات الغرب (بحكم المعايشة اليومية) لتلك المرحلة واسقطوها على مجتمعاتهم عبر تجاربهم الشخصية المباشرة. ولم يأبه كثير من هؤلاء الكتاب و المبدعين الى الفارق الكبير جدا بين تاريخ الضحايا الذين هم نحن، وتاريخ الجلادين و الذين هم من استعمرونا ولا يزالون. لقد ساوى هؤلاء الكتاب (اسقاطا) بتعمد أو بغير تعمد بين تجربة التحرر العربي التي بدأت مع القرن المنصرم و التي مازالت مستمرة، مع افرازات الثورات الأوروبية (الفرنسية والانجليزية) في الحروب التي نشبت بين هذه الدول و التي اعتبرها مواطنوها كمؤشر سقوط لمباديء تلك الثوارت التي لم تمنع بكل شعاراتها قتل عشرات الملايين من المواطنين الأوربيين في حروب أهلية عبثية. و هذا الاسقاط فيه اجحاف و أية اجحاف بحق الأمة حاضرا و مستقبلا. ولذلك يبدو لي هذا النص عبر بنا ملتفتا الى السبعينيات من أجل التدمير، كما فعلت امرأة لوط، وليس البناء. لقد تم القفز الى ضفة أخرى لم تعد ترى في تلك المرحلة الا صورا قاتمة سوداوية تقود المتلقي الى نوع من العبثية والعدمية. عيد الناصر