نبدأ بالأخ الزميل الأستاذ بسطاويسي الذي وجدته غير سعيد بقرار إلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر، ولم يفاجئني هذا صراحة، فالأخ الزميل بسطا كما نطلق عليه كئيب بالفطرة، ولا يبتسم حتى للأطفال، وبعد نوبة سعال مزمن، قال الأخ بسطا إن الأمر لا يعنيه من قريب ولا من بعيد، فالسجن ليس أسوأ من المطحنة التي تعتصره يومياً، على الأقل سينام عشر ساعات يومياً في السجن، ثم انه لا يوقع ما يكتبه باسمه لأسباب يطول شرحها، فهو إما يبيع جهده مقابل بضع جنيهات، أو يكتب من الباطن بأسماء آخرين، وناهيك عن كل هذا فهو بعد سنوات من المرمطة ليس عضواً في نقابة الصحافيين أصلاً، إذن لماذا يبتهج لقرار لا يخصه بالأساس. دعونا من هذا الكئيب ولنتابع نموذجاً آخر، كان ينبغي أن نبدأ به، وهو الآنسة مي التي تخرجت مؤخراً في ال AUC ورغم ذلك فهي تكره أميركا، وتعتبر إسرائيل العدو الأول للعرب والعجم، وتعتمر الكوفية الفلسطينية، وتهتف في مظاهرات الجامعة، وأمام الكعكة الحجرية في ميدان التحرير، التي خلد ذكرها الشاعر الجميل أمل دنقل، الذي تتصور حتى هذه اللحظة الآنسة مي أنه بنت لأن اسمه أمل، ولأن أحداً من جيلنا الذي أوشك أن يصبح من عجائز الفرح لا يجرؤ على تصويب هذه المعلومة أو غيرها للآنسة، ولا حتى يفكر في مناقشتها، ليس ترفعاً، بل إيثاراً للسلامة، وشرا دماغ، فجيل الوسط من الصحافيين المصريين الأربعينيين يعانون الأمرين بين رؤساء مؤبدين في المؤسسات الصحافية، كل ريس منهم جلس على مقعده قبل ربع قرن على الأقل، ويعاملون هذا الجيل الأربعيني باعتبارهم أطفالاً، ولا يفهمون لماذا هؤلاء دائماً متعجلون، وعلى أيه، لهذا ينظر الرؤساء لهذا الجيل بمنتهى القرف والاشمئزاز، ويعلنون في كل مناسبة، ومن غير مناسبة أيضاً بأن رهانهم على الجيل الجديد الحداثي الواعد. لهذا عينت الآنسة مي في المؤسسة الفخيمة حتى قبل أن تدخلها، بينما الأخ الزميل بسطاويسي مازال يجوب القاهرة طولاً وعرضاً كسعاة البريد، أو عمال الدليفري، ليترك تحقيقاً في مكتب الصحيفة العربية هذه، وتقريراً لمكتب الفضائية تلك، ودراسة لمركز أو بالأحرى دكانة حقوق الإنسان، قبل أن يتوجه إلى مقر المؤسسة الفخيمة حيث يقضي ساعات يراجع مقال الأستاذ، وهو التعبير الأكثر تهذيباً لإعادة كتابته، أو بصراحة كتابته من دون إعادة هذه، وبعدها يسرع الأخ الزميل بسطاويسي ليلحق بالموعد الأخير لقطار الأنفاق، ليعود إلى شقته الإيجار الجديد بالطابق الأخير في بناية بعشوائيات حي امبابة، حيث يشاركه فيها ستة من الطلبة والموظفين الذين ينافسونه في البؤس والإحباطات اليومية، يلقي بجسده على سرير، يعلم الله وحده عدد البشر الذين استعملوه قبله، أو الذين ينتظر أن يضمهم في المستقبل المظلم. خان القضية وحتى لا يبدو المشهد كئيباً ومأسوياً ومبالغاً فيه، فإن الأخ الزميل بسطاويسي يجلس أحياناً على المقاهي، يحتسي غالباً الشاي الأسود، وحين يكون للتو حصل على مكافأة من هذا المكتتب، أو تلك الدكانة، والمقاهي في مصر والدول العربية عموماً ارتبطت بصورة أو أخرى بالمثقفين من مقاهي شارع الحمرا في بيروت التي كانت حتى بداية الثمانينيات ملتقى للمثقفين العرب من كافة الاتجاهات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكذلك كانت مقاهي العرب في لندن وباريس، كما ارتبطت كثير من المقاهي بالصالونات الأدبية لمشاهير الأدباء في زمن ما قبل الثوار، كمقهى الفيشاوي وكازينو صفية حلمي، وارتبط بعضها بتنظيمات سياسية وفكرية؛ كمقهى شارع الفلكي الذي شهد بداية تنظيم حدتو أو حركة الديمقراطية والتجمع الوطني التي عرفت بالحزب الشيوعي المصري في الأربعينيات من هذا القرن، ويبدو أن المثقفين العرب بدافع من اللاوعي يحبون دائماً أن يقرنوا بين كلامهم ومناقشاتهم وبين الدخان المتطاير في الهواء، ويمكن من تتبع حالة المقاهي تلك في عالمنا العربي أن نستشعر حالة الطقس في الوسط الثقافي والسياسي، فالسخونة مرتبطة بمناقشات عالية الصوت، تتطور أحياناً إلى حد تبادل اللكمات والتشابك بالأيدي، وهي أيضاً مرتبطة أيضًا بنمط من النميمة الثقافية تسمع معها عبارات ومفردات العمالة وخيانة القضية، وفلان باع وزيد غيّر جلده، وهذه الأديبة علا نجمها هذه الأيام لأنها موهوبة جدًا ثم بضحكة صفراء في أمور لا صلة لها بالأدب، أما في حال البرودة فلا يتخلّى مثقفونا ومعهم صحافيونا أبداً عن النميمة الثقافية وإن كانت في تلك الحالة مقترنة بإيقاع قرقرة النارجيلة الممل، وانبعاث الدخان ببطء إلى العدم. زهرة البستان أما صلة الصحافيين بالمقاهي في القاهرة، فهي لا تعود إلى الصياعة وحسب، بل لأنهم بلا مكاتب أو حتى جهات عمل يرتزقون منها بشكل ثابت، وصاروا يشبهون طائفة الأنفار الأرزقية الذين يجلسون في أماكن معروفة ل مقاولي الأنفار، حتى إذا احتاج هؤلاء إلى بعض العمال في مهمة لمدة يوم أو يومين أو أسبوع ذهبوا بسيارة نصف نقل واستأجروا بعضًا منهم نظير أجر يوميّ، وبمجرد أن تقف السيارة يتدافع الأنفار جريا صوبها، ثم تبدأ المناقصة في الأجر حتى يتراجع المتدافعون ولا يبقى إلا من تضطره ظروفه إلى قبول هذا الأجر بالغ التدني، وهكذا يبدأ الغد بسعر الأمس وتبدأ المناقصة من جديد، وهكذا. ففي الأمس القريب كان برجوازية المثقفين يجلسون في مقهى الجريون الذي يمتلكه عراقي يقيم بالقاهرة منذ سنوات، أما الصعاليك من الأدباء والشعراء الشبان والصحافيين فكانوا يجلسون على مقهى زهرة البستان الذي كتب أحدهم تحت لافتته المهترئة عبارة ملتقى الأدباء والفنانين. كان في ما مضى من أيام زهرة البستان مقهى متواضعاً؛ مقاعده وطاولاته قديمة ، بما يتناسب مع أسعاره الزهيدة التي تلائم ممتهني الأدب والصحافة، ثم جرى على زهرة البستان ما جرى على غيره اشتراه مستثمر جديد واشترى مقاعد وطاولات جديدة، وصمم ديكورات حديثة، ولم يبق من القديم سوى اسم المقهى والعبارة المكتوبة تحته، ومع الجديد قوانين جديدة الشكك ممنوع والزعل مرفوع واللي حيطلب راح يقعد، واللي ما يطلبش يبعد. وكان الصحافيون أول المبعدين لأنهم كانوا من المتعاملين بالأجل وأقل من يطلب المشروبات، وأصبح روّاد المقهى ناساً غير الناس، شباب جامعات وشابات لا يتحدثن في الثقافة ولا يبالين، لكن يمارسن الحرية التي طالما كانت الإغراء الأكبر لكثير من مدعيات الثقافة، وهن فتيات من كل نوع وملة، أجيال جديدة أدركت قواعد اللعبة مبكراً، و(جابت من الآخر) كما يقال، فلا ثقافة ولا تنظير ولا وجع قلب ومخ وأعصاب، ومن يريد أن يفعل شيئاً فليفعله دون تنظير ولا مقدمات سمجة عن أصل العائلة، والأسرة كنتيجة لبروز الملكية الخاصة، وغيرها من أكاذيب اليسار البائد، لهذا .. ولغير هذا من الأسباب والملابسات، ضاق زهرة البستان بالزبائن من طراز الأخ الزميل بسطاويسي وأشباهه فلملموا إحباطاتهم، ورحلوا. مقهى الكلاب حمل الصحافيون من طراز بسطاويسي قروشهم وحظهم العاثر وتوجهوا إلى مقهى فيينا في شارع قصر العيني، حيث وجدوا في البداية كل الترحيب والمودة، ودارت الأيام، ووجدت إدارة المقهى أن الأمر لا يستحق، وأن الأخ بسطاويسي وأشباهه من هؤلاء الصحافيين السناكيح يجلسون ساعات طويلة ويستقبلون أصحابهم الجرابيعويتصرفون على راحتهم، لكنهم لا يطلبون أكثر من كوب شاي بنصف جنيه، فبدأت المضايقات، يأتي القهوجي مرة بعد أخرى ويسأل تؤمر بشئ يا أستاذ؟، وحين لا يجد استجابة يبدأ السماجة قائلاً مثلاً : لو سمحت وسّع يا أخ ، عايزين نفضِّي مكان للزباين اللي بتدفع، أو في رواية أخرى: بعد إذنك يا أستاذ، المكان محجوز للمعلم فلان.. اقعد جوّه. مرة أخرى زنوج الصحافة همومهم وفقرهم وانكساراتهم إلى أحد أكثر المقاهي تواضعًا في القاهرة، يقع في نهاية شارع رمسيس عند نهاية كوبري أكتوبر وهو مقهى يتجاور مع ورش ميكانيكا وسمكرة السيارات، ومرتادوه هم أصحاب الورش وصبيانهم- ولهم كل الاحترام -، ويختلط هناك الكلام عن أسعار طلاء السيارات وإطاراتها بالحديث عن طرد الصحافي فلان من الأخبار، ومنع رئيس التحرير نشر كتابات صحافي آخر في الجمهورية ، وغلق صحيفة كذا أو إفلاسها ، أو رفض المطابع لطباعتها بأوامر .. كلام وغضب وإفلاس وجوع، والكلب الذي ينبح لا يعض هذا ما حدا بأحد الصحافيين المغضوب عليهم والذي أغلقت صحيفة كان يرأس تحريرها قبل سنتين لأن يسميها قهوة الكلاب، وهو تعبير استخدمه هتلر بصورة أخرى في سياسته الإعلامية التي قادها غوبلز قبل عقود خلت، وكان يطلق على سياسته حرية النباح انبح كما تشاء. وانبح كما تريد، ولكن لا تفعل شيئاً.. وإلا. وهل من كانت تلك حالته قادر على أن يكتب شيئًا ذا معنى، أو يحصّل ثقافة ذات معنى وإطلالة صغيرة على حال الصحافة المصرية في زمن شعارات السماوات المفتوحة والمنظومة الإعلامة وغيرها، سيكون أبلغ من أي كلام، صحافة بلا رائحة ولا معنى ولا مضمون ولا حتى حرفية، وإقطاعيات التليفزيون والإذاعة التي يتوارثها أبناء الأكابر أما البسطاويسية فما زالوا يمارسون على مقهى الكلاب حق النباح العلني، وكل مؤتمر وأنتم بخير. * عن موقع إيلاف الإليكتروني