على امتداد الزمن، حفرت الطبيعة توقيعها في قلب العُلا، تلك الأرض التي تحمل بصمة الأزمنة الغابرة، وشاهدةً على تاريخ جيولوجي يمتد لمئات الملايين من السنين، إنها ليست مجرد وادٍ تحيط به الجبال، بل كتابٌ مفتوحٌ من الصخور المتحولة، والرسوبية، والبركانية، تسرد صفحاته قصة الأرض منذ نشأتها. حين تتحدث الصخور.. إرث الزمن السحيق تبدأ الحكاية مع الصخور المتحولة، التي ترقد في جنوب العُلا منذ أكثر من 900 مليون سنة، متوشحةً بأسرار الأزمنة البدائية، حملتها طبقات الأرض العميقة، صهرتها نيران الضغط والحرارة، ثم أطلقتها إلى السطح شاهدةً على عصور شهدت محيطات منقرضة وأنهارًا جفت قبل أن تعرف البشرية معنى التاريخ. ثم تأتي الصخور الرسوبية، لتقص علينا فصلاً آخر من الحكاية، حين كانت العُلا قبل 500 مليون عام ساحلًا تطوقه أمواج البحر، وأنهارًا متدفقة تكسوها الدلتا بألسنتها الرملية، وبين طبقاتها تختبئ بقايا كائنات بحرية غابرة، كانت يومًا ما تسبح في مياه دافئة، لم يكن أحد ليشهدها سوى تلك الصخور التي حفرت عليها أسماء الماضي. أما الصخور البركانية، فهي رسائل نارية من جوف الأرض، تحكي عن عصور كان فيها البركان سيّد المشهد، يقذف حممه الساخنة فوق العُلا منذ 10 ملايين عام، ليشكّل سجادًا أسود من البازلت، امتد كحزامٍ صلبٍ يُزيّن حواف الجبال، شاهداً على نوبات غضب الأرض، قبل أن تخمد النيران وتتحول إلى تحفة جيولوجية تأسر الألباب. منحوتات الزمن.. روائع الطبيعة في العُلا لكن أجمل ما تركته العصور السحيقة هي تلك التكوينات الصخرية الفريدة، كأنها لوحات فنية رسمتها يد الزمن، ونحتتها عوامل الطبيعة، لتُضفي على العُلا سحرًا يأبى التكرار. في قلب الصحراء، يقف "جبل الفيل"، تلك الصخرة العملاقة التي تبدو وكأنها تحررت من قيد الجمود، رافعةً خرطومها نحو السماء، متباهيةً بهيبتها التي صقلتها الرياح والمطر على مدى آلاف السنين. وعلى مقربة منه، تظهر "الغراميل"، صخور نحيلة تنتصب في مشهد يبعث على الذهول، كأنها أعمدة خرافية تركتها أمواج الزمن في منتصف الطريق، شاهدةً على رحلةٍ شاقةٍ من النحت والتعرية. أما "صخرة الوجه"، فهي حكاية أخرى، حيث تتخذ الصخور ملامحًا بشرية، تُراقب الشمس عند المغيب، كأنها عين الزمن التي لم تنطفئ أبدًا. وفي بقعة أخرى من العُلا، تخطف الأبصار "صخرة الجرة"، التي تتخذ شكلًا أقرب إلى وعاء فخاري نُحِتَ على مهل، تارةً بالرياح، وتارةً بمياه الأمطار التي غسلت وجه الصخر حتى اكتسب هذه الهيئة المتناسقة. رؤية ولي العهد.. حين يصبح التاريخ وجهة المستقبل لم يكن لهذا الإرث الجيولوجي أن يبقى طيّ النسيان، فقد جاءت رؤية العُلا، بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لتحمل على عاتقها تحويل هذه التحفة الطبيعية إلى أكبر متحف مفتوح في العالم. إنها ليست مجرد مشاريع تطويرية، بل بعث جديد لحضاراتٍ غابرة، وامتدادٌ لحكاية الأرض التي تسردها الصخور، فمن خلال المراكز الثقافية، والمرافق السياحية، والمسارات البيئية، ستتحول العُلا إلى وجهة عالمية يقصدها عشاق الجيولوجيا، والباحثون عن السحر المكنون بين طبقات الزمن. وهكذا، تظل العُلا، بماضيها العريق ومستقبلها الواعد، أيقونةً تُجسّد انسجام الإنسان مع الطبيعة، وسِجلًا مفتوحًا يروي سيرة الأرض حين كانت صامتةً، وحين نطقت بلغة الصخور، وحين حملت رسالة الزمن إلى الأبد.