إذا أردت نموذجاً لمشهد تداخلت فيه عناصر المكر والدهاء مع العبط والاستعباط، فسوف تجد ضالتك فيما سمي بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، بما قدمه من أفكار وما رتبه من أصداء. (1) من باب العلم والإحاطة اقدم لتحرير المنطوق الذي أسلفت بشهادتين. خلاصة الأولى انه في عام 1988، اصدر أستاذ أمريكي من اصل أفريقي يدرس الأدب والانثربولوجيا في جامعة ديوك، اسمه فيواي موديمبا، كتاباً عنوانه "اختراع أفريقيا"، وفيه حاول الإجابة على السؤال: لماذا الاستعمار؟ - وفي بحثه اتجه إلى تجاوز الأسباب المعروفة المتمثلة في الدوافع السياسية والاقتصادية، وركز بشكل خاص على العقلية الكامنة وراء تلك الدوافع. وبعد تحليل مطول لعديد من الشواهد خلص إلى أن فكرة "التمركز حول الذات" ظلت مهيمنة على تلك العقلية. وهي التي تنطلق من التسليم بتفوق الشعوب الأوروبية ودونية أو انحطاط الشعوب الأفريقية الأخرى. وبسبب ذلك التفاوت فان العقل الغربي سعى إلى إعادة صياغة الشعوب الأفريقية، بحيث تتلبس أفكار وقيم وسلوكيات النموذج الغربي، الأمر الذي ينتهي بإخضاع الشعوب الأخرى ليس سياسياً واقتصادياً فحسب، وإنما حضارياً وسلوكياً أيضاً. النتيجة التي خرج بها موديمبا هي أن التمركز الغربي نحو الذات هو في نهاية المطاف منطلق لإعادة تنظيم العالم يستهدف بسط الهيمنة الحضارية على غير الغربيين. وفي تحليل متميز نشرته صحيفة "الحياة" في 19/2 لأحد أساتذة الانثروبولوجيا المرموقين في مصر - الدكتور احمد أبو زيد - ذكر الكاتب أن هذه الأفكار تنطبق في جوهرها على نظرة الولاياتالمتحدة إلى العالم العربي الإسلامي في مشروعها شرق الأوسطي الجديد. وجهودها السافرة أو المستترة إلى تغيير الكثير من أوضاع المنطقة من تحريم ختان الإناث إلى تعديل مناهج التعليم ومحاولة فرض النظام الغربي لما سمي بالحكم الصالح. وهي خلفية تطرح علينا السؤال التالي: هل نحن بصدد محاولة أخرى لاختراع الشرق الأوسط؟ (2) إليك الشهادة الثانية: في صيف عام 99 - قبل سنتين من أحداث 11 سبتمبر - دعا مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت إلى ندوة كان عنوانها "العرب ومواجهة إسرائيل - احتمالات المستقبل" - قدمت فيها ورقة حول الصراع العربي الصهيوني في النظام العالمي، أعدها الدكتور فؤاد مغربي أستاذ العلوم السياسية بجامعة "تنيسي" في الولاياتالمتحدة. (أوراق الندوة نشرت في العام التالي تحت ذات العنوان في مؤلف ناهر الألف صفحة). استوقفني في دراسة الدكتور مغربي محور تعلق بالمتغيرات التي طرأت على التغلغل الأمريكي في أنحاء العالم، وفيه ذكر ما نصه أن الولاياتالمتحدة "أصبحت تحض عدداً من مناطق العالم على التوجه نحو الديمقراطية.. ومنذ زمن وكبريات الصحف في الولاياتالمتحدة تتكلم مراراً وتكراراً عن الانتقال نحو الديمقراطية ودور المجتمع المدني، بل نشأت صناعة كاملة لمعلومات تساند تلك الشعارات" (ص 1128). أشار الكاتب إلى دراسة مقارنة أجراها أحد علماء الاجتماع السياسي - وليام روبنسون - حلل فيها الطابع المميز للتغلغل الأمريكي في مناطق مختلفة من العالم، خلص منها إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية انتقلت من مساندة أنظمة قائمة على التسلط إلى دعم أنظمة قائمة على فريق صغير من الأفراد يمثلون نخباً مختارة بعناية، تأتي من خلال انتخابات محكمة تماماً، وهو يصف هذا النظام "بالبولياركي" وهو مصطلح مشتق من النظام "الاوليجاركي" الذي يعني حكم النخبة. في ظل هذا الوضع - والكلام للباحث - يجري الترويج للديمقراطية عبر مجموعة متنوعة من المؤسسات الأهلية بتوجيه وتمويل من الحكومة الأمريكية والأوروبيين واليابان (وهي الفكرة المطروحة الآن علينا) - وتلعب "المؤسسة الوطنية من اجل الديمقراطية في الولاياتالمتحدة"، التي تدعمها أموال عامة، دوراً مهماً في هذا المضمار، علماً بأن أنشطتها في مختلف أنحاء العالم واسعة النطاق. حسب الدكتور مغربي فان نظام البولياركي المرشح للتعميم يقوم على الفرضيات التالية: أن النخبة المحلية الحاكمة على صلة بالغرب وموالية له - أن المؤسسات منفتحة لمشاركة المواطنين ولكن بطرق حصرية واضحة - أن الانتخابات ينبغي أن تجرى بشفافية ضمن خيارات مخطط لها، وينبغي التأكد من النخبة التي تخوضها هي وحدها المسموح بها - يوجه الرأي العام بشكل دقيق من خلال الرقابة الذاتية واستطلاعات الرأي العام - أن تكون الحياة العامة غير مسيسة، بحيث يتم الفصل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي. فالسياسة تدار بواسطة محترفين وبواسطة مؤسسات المجتمع المدني، في حين يتحول بقية الناس عملياً إلى متفرجين يشاركون بين الحين والآخر في انتخابات مخطط لها بدقة، وينشغلون بأمورهم الحياتية وهمومهم المعيشية. ختم الباحث هذه النقطة بقوله: من المفترض أن تؤدي تلك الجهود في النهاية إلى ايجاد قوى سياسية (ربما بينها أحزاب سياسية) حتى يقال انها عصرية وديمقراطية - وفي سياق الشرق الأوسط فان ذلك يترجم طبعاً إلى ايجاد مجموعات مؤيدة للولايات المتحدة أو للغرب عموماً، لتكون في النهاية جزءاً من الكفاح السياسي ضد قوى الأصولية واليسار العلماني (ص 1131). اكرر أن هذا الكلام قيل في عام 1999، قبل حوادث 11 سبتمبر وقبل إطلاق مشروع أو مبادرة الشرق الأوسط. (3) المكر الذي أشرت إليه ثابت بحق الطرفين، الذين أرسلوا المبادرة والذين استقبلوها. فقارئ مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي نشرته صحيفة "الحياة" في 13/2، وأشارت في تقديمه إلى انه النص الذي أرسل إلى دول مجموعة الدول الصناعية الثماني، يلاحظ أمرين أساسيين، الأول: انه انطلق من نقد لأوضاع العالم العربي أثبته تقريران صدرا عن الأممالمتحدة، استعرضا الوضع البائس للتنمية البشرية في أقطاره، وهما التقريران اللذان أعدتهما نخبة من المثقفين العرب الذين مارسوا نقداً ذاتياً صريحاً، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يتهمهم بالتحامل أو التمييز ضد العرب. الأمر الثاني ان المبادرة تبنت وتضمنت العديد من المطالب التي يتطلع العرب إلى تحقيقها منذ عدة عقود، من الإصلاح السياسي وتشجيع الحرية والديمقراطية إلى مكافحة الفساد وتقوية مؤسسات المجتمع والتنمية الاقتصادية ومحو الأمية. وتلك كلها عناوين جذابة، حتى تحمس لها أحد الكتاب إلى الحد الذي دفعه إلى القول بأن "مشروع الشرق الأوسط الكبير هو في حقيقة الأمر تجسيد لمجمل مطالبنا القومية التي طالبت بها مختلف الحركات الوطنية في شتى أرجاء الوطن العربي منذ القرن ال 19 وحتى يومنا هذا. والتي ضحت في سبيلها أجيال متتالية من شرفاء هذا الوطن رجالاً ونساء.. (وإذا كان) الذي يطرح هذه المبادئ هو الولاياتالمتحدة التي تتعرض الآن لازمة ثقة في الوطن العربي، فتلك قصة أخرى، لا ينبغي أن تجعلنا نتنازل عن مطالبنا الوطنية الأصيلة، أو نرفض تطبيقها لمجرد أنها جاءت من المشروع الأمريكي. ان شئت فقل ان الذين اعدوا المشروع قاموا باختطاف قائمة المطالب التي نادت بها النخب العربية، وقدموها إلينا باعتبارها أشواقاً أمريكية أيضاً، تستهدف النهوض بمجتمعاتنا والارتقاء بها. وإذا نحينا الشق المتعلق بالمقاصد جانباً، فان اغلب تلك المطالب، أو الموضوع منها في الواجهة على الأقل، مما يتعذر رفضه. فمن ذا الذي يستطيع أن يقول لا للحرية والديمقراطية والشفافية ومكافحة الفساد ورد اعتبار المرأة؟ إذا كان المشروع قد قدم لنا على ذلك النحو الماكر، فان النخب السياسية العربية التي تؤثر الرسالة على مصالحها، خصوصاً ما تعلق منها باحتكار السلطة، لم تعدم وسيلة لرد الطلب. إذ بدورها أشهرت ردوداً مما يسلم به الجميع ولا يستطيع أحد أن يطعن فيه. فقد اعتذرت عن استلام الرسالة لأنها قادمة من الخارج، وهو ما يخدش الكرامة الوطنية. كما اعتبرت أن ذلك الاستقدام يتعارض مع "خصوصية" العالم العربي، فضلاً عن خصوصية قطر. وهناك من دعا إلى الربط بين مشروع الإصلاح وحل قضية فلسطين وإقرار السلام في المنطقة. وتلك كلها أسباب وجيهة لرفض المبادرة، اخفت بين طياتها رفضاً لإجراء أي إصلاح حقيقي، وحرصاً على إبقاء الوضع كما هو عليه، بكل مثاليته وسوءاته. لم يخل الأمر من مفارقة، لان احترام الخصوصية مثلاً لا جدال فيه - ولكن أحداً لم يقل إن احتكار السلطة أو تزوير الانتخابات أو مصادرة حرية الرأي أو حكم المجتمعات بقوانين الطوارئ هو من الخصوصية. وليس من شك أن مطالب التسوية العادلة لقضية فلسطين يجب التمسك بها، لكن ذلك لا ينبغي أن يوقف عجلة الإصلاح السياسي، خصوصاً أننا خبرنا نظماً صادرت الحريات وأجلت الديمقراطية منذ نصف قرن، بحجة أولوية القضية الفلسطينية. ومن الطريف أن هذه المشاعر "القومية"" النبيلة التي ظهرت بعد إعلان المبادرة، جرى التعبير عنها في بلدان ظلت تروج طيلة السنوات الأخيرة لشعار "نحن أولاً"، وما برحت تغذي النوازع الانعزالية والقطرية بكل السبل! (4) استغربت ترحيب البعض بالمشروع الأمريكي، ودعوتهم لنا بالتفاعل مع ما يطرحه من أفكار، رغم أنني أحد الذين يدعون إلى العض بالنواجذ على الإصلاح السياسي بكل مفرداته وعناوينه. وذكرتني مقولات أولئك البعض بما صدر عن الشيخ عبد الحميد بن باديس أحد رواد الإصلاح وآباء الثورة الجزائرية، حين نقل إليه نفر من الناس ذات يوم انطباعاتهم الإيجابية عن سلطة الاحتلال الفرنسي التي دأبت على التقرب إلى الطرق الصوفية، فقال لسامعيه ان الفرنسيين لو نطقوا بالشهادتين فسوف نحاربهم. ببساطة لأنهم محتلون ولا سبيل إلى افتراض البراءة في أي شيء يصدر عنهم، بما في ذلك دخولهم في الإسلام. يصعب علي أن احدد حقيقة موقف كل واحد من أولئك الذين احتفوا بالمشروع الأمريكي، وما إذا كان ذلك من قبيل العبط أو الاستعباط، ولكنني ازعم أن تكييف ذلك الموقف لا يخرج عن هذين الاحتمالين - لماذا؟ لأنهم افترضوا في الإدارة الأمريكية أنها جمعية خيرية لا تبتغي فيما تقدمه إلا وجه الله، وبالتالي فما تدعو إليه من إصلاح منزَّه عن الهوى والغرض. وإذا لم يكن ذلك من العبط فهو استعباط من العيار الثقيل. لان الدول الكبرى لا تفعل شيئاً لوجه الله. وإنما لها سياسات ومقاصد، ولا تثريب عليها في ذلك. من ثم فالسؤال الذي ينبغي أن يشغلنا ينصب على تحري هذه المقاصد ومدى مشروعيتها من وجهة نظرنا وفي ضوء مصالحنا. فالقراءة الموضوعية للمشروع لا تعزله عن موقعه وسياقه في السياسة الأمريكية. وما تضمنه من أهمية إحداث تغييرات جوهرية في الشرق الأوسط عبر إقامة نظم ديمقراطية في دوله ليس جديداً. وإنما له جذوره التي تمتد إلى عام 92 حين اعد بول وولفوتيز مساعد وزير الدفاع آنذاك ديك تشيني (في ولاية جورج بوش الأب) دراسة حول توجهات سياسة الدفاع في الولاياتالمتحدة، ودعا فيها إلى إعادة النظر في الاستراتيجية الأمريكية، بعدما خلت لها الساحة، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، ودخول العالم في حقبة القطب الأوحد. في تلك الدراسة تحدث وولفوتيز عن ضرورة منع ظهور أي منافس للولايات المتحدة في الساحة الدولية، ودعا إلى الاهتمام بتوسيع مناطق الديمقراطية والسلام في العالم. وقد شاءت المقادير أن يصبح وولفوتيز نائباً لوزير الدفاع في الإدارة الحالية، وتشيني نائباً لرئيس الجمهورية. في عام 97 تأسس المركز الذي تبنى مشروع القرن الأمريكي الجديد، واصدر مؤسسوه آنذاك "إعلان مبادئ" ركز على أهمية الدور الأمريكي في قيادة العالم، وضرورة إقامة نظام عالمي "موال لامتنا ورخائنا ومبادئنا". وتحدث عن نقطتين أخريين هما: التعاون مع "الحلفاء الديمقراطيين" في "النظم المعادية لمصالحنا وقيمنا" (الموجودة في الشرق الأوسط أساساً) - وتعزيز قضية الحرية السياسية والاقتصادية في الخارج. في عام 98 وجه 18 من الشخصيات الأمريكية رسالة إلى الرئيس كلينتون طالبوه فيها بوضع استراتيجية جديدة تحمي مصالح أمريكا وحلفائها وتحقق الدفاع عن القيم الأمريكية. ودعوا صراحة إلى إسقاط النظام العراقي، منبهين إلى فشل سياسة احتوائه. وكان من بين الموقعين على تلك الرسالة أشخاص اصبحوا يحتلون مناصب مهمة في الإدارة الأمريكية الحالية، منهم رامسفيلد وزير الدفاع ونائبه وولفوتيز وزلماي خليل زادة، الذي صار مبعوث الإدارة الأمريكية في أفغانستان، ثم سفيراً في كابول. وريتشارد بيرل عضو مجلس الدفاع (استقال مؤخراً). في سنة 2002 - بعد أحداث سبتمبر - أعلن الرئيس بوش استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي ركزت في فصلها السابع على أهمية توفير البنية الأساسية للديمقراطية في الشرق الأوسط، وتوسيع دائرة التنمية لإنضاج مجتمعات المنطقة. هذا"التراث" الذي تراكم منذ أوائل التسعينيات، واسهم فيه خبراء الدفاع مع عناصر المحافظين الجدد - وكلهم من الصقور - احتل مكانة في عقل الإدارة الراهنة، خصوصاً أن كثيرين ممن صنعوا ذلك التراث اصبحوا من أعمدة تلك الإدارة. وقد امتد تأثيره إلى أروقة وزارة الخارجية، حتى صار يشكل الوعاء الأساسي الذي خرجت منه مبادرة المشاركة في الشرق الأوسط التي أطلقها في العام الماضي كولن باول وزير الخارجية، ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي نحن بصدده. وهو ما يعني بصريح العبارة أننا بصدد حلقة في مسلسل طويل يفتقد إلى البراءة. وان المشروع من أوله إلى آخره لا يستهدف تلبية لأشواقنا الوطنية كما يزعم الذين يريدون استغفالنا، وإنما هو توسل بتلك الأشواق وتوظيف لها يراد به إحداث تغييرات في هيكل المنطقة وبنيتها بما يظن انه يخدم الأمن القومي الأمريكي، ويصب في "اختراع الشرق الأوسط" ورفع ألوية القرن الأمريكي عليه. (5) اتهم ناقدو المشروع الأمريكي بالتسرع في الحكم عليه، حتى شكك أحد الكتاب في أن أولئك الناقدين لم يقرأوا المشروع أصلاً. وتلك التهمة من دلائل الاستعباط والاستغفال، لان الذين احتفوا بالمشروع وابرزوا تجاوبه مع أشواقنا الوطنية، ركزوا على ما هو سياسي فيه، وغضوا الطرف عن جوانبه الاقتصادية. ذلك أن المشروع تحدث في جزئه الأخير عما سمي بمبادرة تمويل النمو، التي تعني في جوهرها إدماج المنطقة قسراً في الاقتصاد العالمي، بمشاركة إسرائيل بطبيعة الحال، وذلك من خلال قنوات عدة، في مقدمتها بنك تنمية الشرق الأوسط، ومؤسسة المال للشرق الأوسط. ومن شأن فتح أبواب المنطقة على مصراعيها على ذلك النحو أن يهيئها لعملية اجتياح اقتصادي غربي وإسرائيلي - يضاف إلى الاجتياح السياسي والحضاري - خصوصاً وأنها تعاني من الضعف المشهود في بنيتها الاقتصادية. وهو ما لم يساعد على تنمية المنطقة بقدر ما انه سيؤدي في حقيقة الأمر إلى تحويلها رغماً عنها إلى سوق هائل للبضائع الغربية والإسرائيلية، يشمل العالم العربي بأسره ويمتد إلى باكستانوأفغانستان وإيران. وفي حدود علمي المتواضع، فأنني لم اقرأ أو اسمع أن الوصول إلى تلك النتيجة كان ضمن المطالب القومية التي دعت إليها الحركات الوطنية في أي بلد عربي، في أي مرحلة من التاريخ، كما ادعى بعض المطبلين للمشروع. (6) بقيت عندي ثلاث ملاحظات أخيرة هي: @ أن صك مصطلح الشرق الأوسط الكبير (الأكبر هو الاصوب) وتخير دول بذاتها للانخراط فيه يعبر عن حالة من الاستعلاء المسكون بسوء النية. فالإدارة الأمريكية التي أعطت لنفسها حق تقسيم العالم إلى أبرار وأشرار، مارست نفس الأسلوب وقررت أن تخترع إقليما جديداً بتلك التسمية المبتدعة. وهو ذاته الأسلوب الذي اتبعه الإنجليز أيام إمبراطوريتهم الاستعمارية حينما تحدثوا عن الشرق الأدنى والشرق الأوسط. فضلاً عن ذلك فالاختراع الأمريكي الجديد يطمس معالم المنطقة المعنية ويتجاهل هويتها، من حيث أنها لم تعد عربية أو إسلامية، وكان لا بد من أن يفعل ذلك لإفساح المجال للحضور الإسرائيلي الذي يحتل الحيز الأكبر في الاهتمام الأمريكي. @ أن التوقيت المرشح لإطلاق المشروع له دلالته ومغزاه. إذ يفترض أن يبحث في القمة الأطلسية التي تعقد باسطنبول في شهر يونيو القادم لتحظى بالمشاركة الأوروبية. كما أنها ستعرض على قمة الدول الصناعية في "سي ايلاند" بولاية جورجيا، وستمر بالقمة الأمريكية الأوروبية، وهذان الاجتماعان سوف ينعقدان في شهر يونيو أيضاً. وإذا لاحظت أن تسليم السلطة المدنية للعراقيين تحدد موعده في ذات الشهر، الذي ستجرى فيه أيضاً انتخابات الرئاسة الأفغانية، فلا بد أن ينبهك ذلك إلى أن التوافق الزمني بين كل تلك الاجتماعات ليست مصادفة - وإلا وقعت بدورك في محظور "العبط" - وإنما نحن بصدد مهرجان لتدشين حملة الرئيس بوش الانتخابية، وقد تحولت حكاية إصلاح أحوال الأمة إلى إحدى أوراق الحملة، التي يريد منظموها أن يبرزوا خلالها أيادي الرئيس بوش البيضاء على البشرية.