تتنوع المعاناة بتنوع المتأثرين بها، فليس المريض وحده من يعاني من مرضه. هناك طرف آخر، يعتقد أنه يشارك في هذه اللعبة، التي قد تبدو لذيذة للبعض، ومرة لآخرين.. إنه الطبيب. من غير الطبيب يعرف المريض معرفة تامة.. إنه المبضع الذي يمر عليه بحنو ليستخرج منه الورم، وهو اللمسة الحانية التي تمر عليه لتزيل عنه معاناة يوم كئيب. كثير من المصابين بأمراض الدم الوراثية يشتكون من سوء تعامل الكادر الطبي، معهم، وعدم تفهمهم لآلامهم، وفي المقابل فإن بعض الأطباء (الأخصائيين أو العامين في الإسعاف) يعتقدون ان المرضى يبالغون في تصوير آلامهم، لا بل ان بعضهم يشيرون إلى ان المريض مدمن أو كاد يدمن الجرعة المهدئة، التي تعطى له في الإسعاف، وهذا الإدمان جاء لكثرة ما تناوله المريض من إبر مسكنة للألم، تتراوح في كميتها وقدرتها على تسكين الألم، حتى ان أحد الأطباء العاملين في أحد مستشفيات المنطقة الشرقية (رفض التصريح عن اسمه واسم المستشفى) قال ل (اليوم): أحد المرضى راجع إسعاف المستشفى خلال شهر محرم من العام الماضي أكثر من 54 مرة، ليحصل على إبرة (البتدين) ومن ثم يخرج، رافضاً تنويمه في المستشفى.. (اليوم) تطرح مسألتي تفهم الطبيب للمريض، وإدمان الأخير على المهدئات: علاقة حميمية يقول الدكتور علي الحداد (استشاري أمراض باطنة ومعدية): هناك علاقة حميمية بين المريض وطبيبه، وهي علاقة يجب أن تكون قوية ومتينة، بحيث تتجاوز الشكليات التي يفرضها روتين العمل اليومي، وفي مرضى الدم الوراثي قد تكون الحاجة ماسة لتوطيد هذه العلاقة، حيث يتعرض هؤلاء المرضى لنوع من الإقصاء، أو عدم الاهتمام من قبل فئات كثيرة في المجتمع، يفترض أن الأطباء ليسوا من ضمن هذه الفئات. الطبيب أيضاً يعاني يضيف الدكتور الحداد: يعتقد البعض أن المريض هو صاحب المعاناة الأوحد، حتى ان بعض المرضى يشعرون أن الطبيب مجرد من العواطف، وأنه يعطي العلاج فقط للمريض، ثم ينتهي الأمر، وهو على العكس من ذلك تماماً، فالطبيب له معاناة كبيرة، حيث أنه يتعايش مع المريض بكل تفاصيله، والطبيب الذي يحترم نفسه، ويعرف واجباته تماماً، لن يرضى لنفسه أن يكون مجرد مسجل للمعلومات، ومتلق للحالة. إنه ينفق وقته وصحته ليرى البسمة على وجه المريض، أو يسمع منه كلمة تعبر عن راحته. التعاطف مع المريض فيما يقول الدكتور فهد عبدالله (أخصائي أمراض باطنية): تردنا حالات كثيرة يشتكون من آلامهم، ونحن بدورنا لا يسعنا إلا أن نتعاطف معهم، ونبدي لهم لين الجانب، وهو أمر من صلب واجباتنا. ويروي الدكتور فهد: ذات يوم جاءت فتاة تشكو من آلام متعددة، وكنت أشك في طبيعة هذه الآلام، حيث أن بعضها غير صحيح، وعندما استدعيت والدها، وسألته إن كان هناك مشاكل في الأسرة أنكر ذلك في البدء، ولكنه عاد وقال: ما أحوجنا إلى طبيب مثلك، ولو كان الأطباء الذين يعالجون ابنتي يتحاورون معها بهذه الطريقة لاستطاعت أن تتجاوز مشكلتها. لا لغة للتفاهم! وعن استقباله في الإسعاف يقول والد المريضة (الحديث لا يزال للدكتور فهد): بصراحة؛ لقد تعبنا من التعامل في الإسعاف، حيث يستقبلنا ممرضون وأطباء أجانب، ونحن لا نعرف كيف نتعامل معهم، لأنهم لا يفهمون لغتنا، فيكتفون بإعطاء ابنتي إبرة مهدئة، أو مغذيا، ثم تخرج من المستشفى، دون أن يعرفوا تاريخ مرضها، أو ملفها الخاص، ولذلك فهم لا يعيرونها اهتماما كافيا، مما يزيد من آلامها، رغم أنها تخف في الواقع. ويضيف الدكتور فهد: الطبيب قد يكون لديه حق في أنه لا يستطيع مسايرة جميع مرضاه، خاصة في الإسعاف، لأنه لو باشر هذه الحالة فإن عمله لن ينجز، لكن ما ذنب هؤلاء المرضى، الذين تمشي معاناتهم معهم، وكأنها قدر أو ظل! طبيب طوارئ.! عبد الله آل حسين (مريض)، يقول: نحن لا نعول على الأطباء الأجانب كثيراً، لأن غالبيتهم يأتون لفترة معينة، ثم يرحلون، عبر عقد معين أو انتداب، وهذا أمر نعرفه جيداً، ويطبق في غالبية المستشفيات، ولذلك فهم لا يعيرون كبير اهتمام بحالات مثل التي أعاني منها (الأنيميا المنجلية)، فعندما تمر عليهم حالاتنا، ويتعاملون معنا بطريقة جافة فإننا لا نلومهم كثيراً، رغم أنه من المفترض أن تكون لديهم دراسة كافية، واطلاع شامل على مثل هذه الحالات. وبالنسبة للدكتور فهد فإنه يعرف هذا الأمر، ولكنه لا يملك من الأمر شيئاً.. يقول: نحن دائماً نسعى لتدارك مثل هذه الأمور، ولكن لعل الأمر يحتاج إلى وقت لتلافيها.. مضيفاً: حسب معرفتي فإن مثل هؤلاء الأطباء تعطى لهم تعليمات كافية للتعامل مع هذه الحالات، ولكن ربما يكون هناك بعض التقصير أو المبالغة من قبل بعض المرضى في وصف حالاتهم. المهدئات هل هي خطر؟ وعن تناول المهدئات يقول الدكتور فهد: بعض المرضى يتناولون الكثير من المهدئات، وبعضهم يصر على استعمالها، دون الحاجة إليها في بعض الحالات. وحذر الدكتور فهد من أن هذه الحالات لا يمكن إطلاق صفة الإدمان عليها، لأن من وصلوا إلى هذه الحالة هم أرقام بسيطة ومحدودة، لا يمكن التعويل عليها كثيراً، إذا ما أخذنا إحصائيات للتعرف على نسبة المدمنين من المرضى، ويمكن وصف الحالة، بأنها شبه إدمان أو مرحلة ما قبل الإدمان.. مؤكداً إن دور الطبيب هو أن يشرح حالة المريض جيداً، وأن يتعامل معها بعفوية واحترام، بحيث يقنع المريض بعدم تناول المهدئات، إذا لم يكن محتاجاً إليها. المهدئات والوقت الضائع وترى الدكتورة ضياء الحجاج (استشارية أمراض باطنية ومعدية) أن المريض يبحث دائماً عن علاج لمرضه، وهو إذا وجده في المهدئات والمسكنات فلن يتوانى عن استعماله، خاصة إذا كان شخصاً يعاني من الفراغ، بسبب عدم انتظامه في المدرسة، أو عدم حصوله على وظيفة، فإنه في مثل هذه الحالات يسعى للقضاء على وقته الضائع، من خلال تناول هذه المهدئات، إذ أنه ما إن يشعر بالضعف، أو الألم، فإنه لا يتمكن من مقاومته. وتؤكد الحجاج على أهمية مضاعفة الإرادة لدى المريض، مع استثناء الحالات الشديدة، التي لا يستطيع فيها مقاومة المرض.. مشيرة في هذا السياق إلى دور العائلة والأهل (بالتحديد الأم والأب)، فإن لهم دوراً فعالاً في التخفيف عن المريض، وبدون وجود مثل هذه الحالة فإن المريض سيبقى وحيداً، وستفترسه المعاناة.