واجه المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية مظاهرات عارمة في سياتل في ديسمبر 1999م، حيث قامت الجماعات المناهضة للعولمة بتحطيم زجاج واجهات المحلات التجارية والمؤسسات الحكومية في مدينة سياتل. ولقد أغلقت المظاهرات شوارع المدينة للتعبير عن قلقها المتزايد والناتج عن تطورات تاريخية تؤثر في اقتصاد جماعات المصالح. واعتقد المحللون السياسيون والاقتصاديون أن الوضع سيكون مختلفاً في مدينة كانكون الصغيرة بالمكسيك عندما عقدت المنظمة المؤتمر الوزاري الخامس لمناقشة العديد من محاور التجارة العالمية، لكن وصول حوالي 30000 متظاهر لتوجيه رسالة للمؤتمرين للتعبير عن سخطهم تجاه المنظمة والعولمة كان مخيباً لتوقعاتهم . ويعد المزارعون الأمريكيون ضمن المتظاهرين الذين يرون فيها التهديد الكبير لمنتجاتهم الزراعية في السوق الأمريكية وخارجها. ويبدو أن هذه الجماعات المناهضة لمنظمة التجارة العالمية ساخطة بسبب ما يحدث من تحولات اقتصادية عالمية تؤثر سلباً على نموها الاقتصادي لأنها توجد منافسة غير عادلة لصغار الشركات التي لا تستطيع مجاراة المنافسة العالمية. وإذا كان هذا هو حال المزارعين الأمريكيين وغيرهم من الأوروبيين فإن الوضع سيكون أشد تعقيداً بالنسبة للمزارعين من الدول النامية والفقيرة بما في ذلك المملكة، ولنأخذ على سبيل المثال الفلبين التي كانت دولة زراعية تنتج المحاصيل الزراعية التي تكفي استهلاكها المحلي، حيث أصبحت بعد انضمامها للمنظمة دولة تعتمد بدرجة كبيرة على المنتجات الزراعية الأجنبية لأنها لا تستطيع إنتاجها بأسعار منافسة. ويمثل المؤتمر الوزاري للمنظمة أعلى حدث لصنع القرارات المتعلقة بالتجارة العالمية، بل يؤمل منه تحقيق الشراكة الفاعلة بين الدول الأعضاء من جهة والشركات والدول الأعضاء من جهة أخرى، وهذا ما توقعه أصحاب المصالح من المؤتمر الوزاري الخامس في كانكون. وسعت الدول المشاركة في الاجتماع الوزاري لتحقيق أهداف ذات أهمية لشعوبها، لكن فقط الدول العظمى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية نجحت في تسيير المنظمة لصالحها بزعمها أنها قادرة على تطوير الإنتاجية العالمية من خلال التكنولوجيا المتقدمة التي تحتكرها لهذا الغرض، وهذا احتكار غير عادل لا يتفق مع سياسات التكامل الاقتصادي العالمي. ويتضح أن المجتمعات الصناعية المتحضرة تروج لمنتجاتها من السلع والخدمات من خلال إزالة العقبات المتمثلة في الدعم الحكومي المادي والمعنوي في الدول النامية والفقيرة، لكنني أرى في ذلك الخطر الكبير عليها من عمالقة الاقتصاد العالمي. وقد يحاول البعض منا البحث في الأسباب التي جعلت المناهضين للعولمة يفشلون الاجتماعين الوزاريين لمنظمة التجارة العالمية في سياتل وكانكون، حيث اجتمع الكثير منهم للتعبير عن سخطهم عن العولمة الاقتصادية التي تهدد مصالحهم. العالم يدخل في مرحلة حرجة من النزاعات التجارية والإغراق مما يثير المزيد من المبررات حول فشل المنظمة في تحقيق العدالة التنافسية لدول العالم النامي والفقير والمتقدم على حد سواء، لكننا لا نرى عكس ذلك. فالدول المتقدمة تهيمن على الاقتصاد العالمي وتعزز مكانتها في جميع المجالات والأسواق بمباركة واضحة من المنظمات الدولية التي تأتي منظمة التجارة العالمية في مقدمتها. والحقيقة أن الدول النامية والدول الأقل نموا تواجه تحديات كبيرة تحد من منافستها لمننتجات وخدمات الدول الصناعية التي تحاول عرقلة تقدمها من خلال الاجتماعات الوزارية للمنظمة. ولا غرابة في تحول منظمة التجارة العالمية من منشط للاقتصاد العالمي إلى شركة تقدم خدماتها للدول المتقدمة التي صاغت سياساتها منذ حوالي خمسة عقود، أي منذ قيامها في 1947، وهذا ما يدعو الكثير من الدول والشركات لمناهضتها، أو على الأقل المناداة بتحقيق العدالة للجميع. والمثير في الأمر أن الأقليات المتضررة في الولاياتالمتحدةالأمريكية تعارض العولمة الاقتصادية لأنها تفقدها الوظائف والأعمال العائلية مثل الأقليات من السود والشرق آسيويين وغيرهم من اللاتينيين الذين يرونها منظمة تخدم الرأسماليين من الجنس الأبيض. ويمثل الفلاحون الأمريكيون الأكثرية بين الجماعات المعارضة لسياسات منظمة التجارة العالمية لأن منافسة المنتجات الزراعية الأجنبية لمنتجاتهم تشكل الهم الأكبر لهم. وتنظر الدول الصناعية المتقدمة للعوائق التجارية ضد منتجاتها الزراعية بمنظار قاتم لأنها تحبط الدول المتقدمة بعرقلتها للنمو الاقتصادي العالمي، لكن الدول النامية والأقل نمو تعتقد أن إزالة الحماية والدعم الحكومي سيوجدان لها مشاكل كثيرة، حيث يقطنها حوالي 96 % من الفلاحين. وتشتكي الدول النامية والدول الأقل نموا من تدني الكفاءة الإنتاجية بسبب احتكار التكنولوجيا الحديثة من قبل الدول المتقدمة. فالدول الفقيرة التي تعتمد على الصادرات الزراعية تعاني تبعات القرارات الاقتصادية التي تصدر عن المنظمة. وستعاني الدول النامية والفقيرة في مجال الصناعات الثقيلة والخدمات والمنسوجات والحقوق الفكرية وصناعة الأدوية وغيرها من الصناعات ذات العائدات العالية التي تساعد على نموها. هذه الأسباب تدعو المتظاهرين لمناهضة المنظمة لما يصدر عنها من قرارات مصيرية تضر بالصغار. ولعل ما قاله عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر عن الرأسمالية يفيدنا كثيراً في تفسير التحولات العالمية الأخيرة، فهو أول من ناقش الرأسمالية من منظور (بروستانتي) التي تشجع على العمل وتعظيم الادخار بالتقليل من الاستهلاك والاتساع في الأسواق. وهذا ما نلمسه اليوم في التوسع للشركات الأمريكية والأوروبية في الأسواق العالمية بغض النظر عن فقر الدول النامية وغيرها من الدول الأقل نمواً. ولا يستطيع أحد وقف طوفان العولمة، لكننا أمام خيار وحيد هو توحيد مواردنا وتشغيلها بفاعلية وكفاءة عالية معتمدين على أنفسنا فالدول الصناعية لن تعطينا سبل قيادتها للعالم. *جامعة الملك فهد للبترول والمعادن