آل هيازع في اليوم الوطني 94 : الريادة العلمية قاطرة الاقتصاد المعرفي    ارتفاع أسعار النفط إلى 75.09 دولارًا للبرميل    المملكة تستعد لإطلاق ملتقى الصحة العالمي.. بمشاركة 70 دولة و500 خبير    الرئيس الموريتاني يهنئ خادم الحرمين وولي العهد بمناسبة اليوم الوطني ال 94 للمملكة    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    لمسة وفاء.. اللواء ناصر بن صالح الدويسي    بخطى متسارعة.. «غير النفطي السعودي» يتجاوز 4.4%    فيصل بن فرحان يلتقي رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر    بعثة المراقبة الدائمة لروسيا لدى منظمة التعاون الإسلامي تحتفل باليوم الوطني السعودي    رحلة صندوق التنمية السياحي في تمكين مستقبل الاستثمارات في قطاع السياحة    ضربات إسرائيلية تستهدف حزب الله مع تبادل القصف    الوحدة يتأهل لدور ال16 في كأس الملك بعد تغلّبه على الفيصلي بركلات الترجيح    «متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح» تؤكد العمل لإنهاء الأزمة في السودان    دعم خليجي للقضية الفلسطينية    نحلم ونحقق.. 990 أمان لكم    أمير تبوك: اليوم الوطني مناسبة لاستحضار مسيرة البناء    المملكة واليمن شراكة ومواقف ثابتة    شارك في الحدث رفيع المستوى بقمة المستقبل.. الربيعة: 4 تحديات تواجه العمل الإنساني    قائد محور البقع ل«عكاظ»: اليوم الوطني.. احتفاء بمسيرة عريضة من الإنجازات    بدر الفيصل: ذكرى ملحمة التوحيد    التميمي: توظيف تقنيات الفضاء لمعالجة التغير المناخي    استدامة.. تطور وقفزات    «المونديال» في قلب السعودية    في كأس الملك.. النصر لا يخشى الحزم    للمرة الأولى في المملكة .. "الدمام" تستضيف أول بطولة دولية في كرة الطاولة    الحرص على مواصلة تعميق العلاقات البحرينية السعودية التاريخية التي أرسى دعائمها الآباء    اليوم الوطني ملحمة التاريخ    اليوم الوطني ال 94 تجسيد للفخر والانتماء الوطني    خادم الحرمين وولي العهد يتلقيان تهاني القادة بمناسبة اليوم الوطني    «فلكية جدة»: دخول «الاعتدال الخريفي 2024».. فلكياً    فيصل بن بندر يرعى احتفاء «تعليم الرياض» باليوم الوطني ال94    مناهج عصرية في التعليم.. الهدف بناء الإنسان    الشعر والعرضة والأهازيج الشعبية تزين احتفالات «مكس اف ام» بيوم الوطن    موهوبو المملكة يهدون الوطن 107 جوائز عالمية.. و582 ألفاً يتنافسون داخلياً    العرضة.. فنٌّ تراثيٌّ فريدٌ    بخطى متسارعة.. «غير النفطي السعودي» يتجاوز %4.4    بقيادة الملك سلمان وسمو ولي العهد.. السعودية.. أيقونة الازدهار والابتكار    اليوم الوطني السعودي94..أمجاد تتجدد    نحلم ونحقق.. اليوم الوطني السعودي 94    الأول من الميزان    شمس الوطن لا تغيب    أروح لمين ينصفني منك؟    يمثل أحد أهم مظاهر التحول التنموي والحضاري الكبير.. الحراك الثقافي في المملكة.. تحولات جذرية وانطلاقة عالمية    مسجلة في قائمة التراث العالمي في اليونسكو.. عجائب تراثية سعودية تبهر العالم    كأس الملك ..العربي يتجاوز الأخدود بثنائية ويتأهل لدور ال16    تأملات في الزمن والمسافة    الربيعة يتحدث عن التحديات والأزمات غير المسبوقة التي تعترض العمل الإنساني    اليوم.. أول أيام فصل الخريف فلكيا    أمطار غزيرة وسيول متوقعة جنوب وغرب المملكة    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهمي هويدي
نشر في اليوم يوم 28 - 10 - 2003

أحذر من إطلاق العناوين الكبيرة والمصطلحات الرنانة، التي تختزل المواقف في صياغات فضفاضة، تدغدغ المشاعر وتداعب الأحلام. فقد علمتنا تجارب عدة أن الشيطان كثيراً ما يكمن في التفاصيل، وان العناوين الكبيرة تحلق بنا في فضاء الأمنيات، في حين أن التفاصيل هي التي تحكمنا على الأرض. لذلك فقد ترضي تلك العناوين فضولنا حين تجيب على السؤال (ماذا)، إلا أن اقتناعنا - ومن ثم اطمئناننا - لا يتأتى إلا اذا توفرت الإجابة على أسئلة أخرى أهمها (كيف؟).
(1)
لقد راجت في الآونة الأخيرة سوق العناوين الكبيرة، التي أصبحت تنهال علينا من كل صوب، فتارة ترفع في الأفق رايات العولمة والتعددية والتنوير والحوار مع الآخر. وتارة تطل شعارات أخرى من قبيل الفكر الجديد والتيار الإصلاحي ومصر أولاً. وفي طور ثالث تابعنا أحاديث عن (التغيير) والخرائط الجديدة. وفي الأسبوع الماضي برز منبر جديد في مصر مبشراً بالليبرالية بحسبانها مدخلاً إلى النهضة المنشودة، وقد ظلت تلك العناوين بمثابة اسهم تشير لنا إلى اتجاه هنا وهناك، دون أن تحدد لنا بوضوح كيف يمكن أن تترجم إلى واقع على الأرض. ان شئت فقل اننا صرنا بازاء حزمة من الشعارات والعناوين التي تحدثنا عما ينبغي عمله، لكن اغلبها لم يحدثنا عما يمكن عمله في ظل أوضاعنا الراهنة، وفي مواجهة مختلف التحديات التي نتعرض لها داخلياً وخارجياً.
تفيدنا الأسهم لا ريب من حيث أنها تضيء لنا الطريق، لكنها بذاتها لا تعيننا على أن نتغلب على صعاب الطريق ونتعامل مع نوازله. كما أنها تحدد البدايات وتترك لنا المآلات والنهايات غامضة على نحو لا يخلو من مخاطرة، يتضاعف حجمها حين يتعلق الأمر بمصير وطن وأمة.
مثل هذا الالتباس بين الواجب والممكن حرره وحسمه قبل حوالي ثمانية قرون الإمام شهاب الدين القرافي - المصري تلميذ سلطان العلماء العز بن عبد السلام - في مؤلف فريد في بابه، عنوانه (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام). ومن أهم ما بينه في كتابه أن الحكم يسجل مبدأ او موقفاً مجرداً، لكن الفتوى تستنبط رأياً يستضيء بالحكم لكنه يقوم على قراءة الواقع. ولان الحكم يقرر موقفاً عاماً فهو إلزام، أما الفتوى فلأنها تتعامل مع الواقع المتغير فهي مجرد إخبار. من ثم فالحكم ثابت لا خلاف حوله، في حين أن الفتوى متغيرة بل قد تتعدد وتتغير تبعاً لاختلاف الأحوال.
اذا استخدمنا لغة الأصوليين فسنقول ان ما نحتاجه نحن الآن ليس أحكاما او إرشادات عامة، وإنما حاجتنا اشد إلى (فتاوى) تفصل لنا معالم الطريق وتتعامل مع تضاريسه المعقدة والخطرة، على نحو يوصلنا إلى بر الأمان بسلام.
(2)
سنأخذ شعار (الليبرالية) نموذجاً، أولا لأنه احدث ما رفع من شعارات في الساحة المصرية، وثانياً لان الذين رفعوه عرضوا علينا بشكل او اخر رؤيتهم للشعار، وثالثاً لان المنبر الذي اعتلوه جاء بمثابة تجسيد إلى حد ما لتفكيرهم فيه، الأمر الذي يعني انهم لم يكتفوا بالإجابة على السؤال (ماذا)، وإنما ترجموا لنا بصورة او أخرى إجابة السؤال (كيف).
قالوا لنا بصريح العبارة انهم وهم يبشرون بالفكر الليبرالي، إنما يستلهمون تراث عصور النهضة والتنوير في أوروبا، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهم منحازون بالكامل إلى الحرية (حرية الفعل والعمل والإبداع والعبادة) - ويعتبرون أن الليبرالية لا يمكن أن تسود إلا في حكم المؤسسات ودولة القانون وانتعاش المجتمع المدني والشفافية. وهم منحازون إلى التعددية بكل صورها، والى فكر التنوير الذي يساعد على بناء الدولة العصرية، والى الحوار مع الآخر والانفتاح على العالم.
قالوا أيضا انهم ليسوا في حالة ثأر تاريخي مع فكرة او شخص او حزب او طبقة، كما انهم يدعون إلى تخليص العقل من عقد الغزو الثقافي والهيمنة الاقتصادية، ومن كل ما يوقف الاجتهاد الفكري.. والقدرة على الاندماج مع كل تجارب النهضة والتنوير والعلم والتكنولوجيا. ويعتبرون أن مصطلح (الوطنية) جرى ابتذاله خلال نصف قرن من الزمان، في حين يفهمونها بحسبانها كل فعل او قول يقربنا من النهضة.
في موضع آخر، طالعتنا رؤية نقدية لعقل النخبة المصرية من وجهة نظر ليبرالية، أخذت عليها أنها مشغولة بمواجهة المؤامرات العالمية ومروجات العولمة، ومتابعة العمليات الكفاحية ضد إمبرياليات متنوعة، على ساحة ممتدة عربية وإسلامية. وسخرت من تجربة نصف القرن الأخير بدعوى انه شهد انتصار البحر الأحمر بأفكاره ورؤاه على البحر الأبيض والأفكار والعادات والتقاليد العابرة عليه، حتى بات الأول هو خصوصيتنا وجوهرنا وثوابتنا حماها الله (!).. وما بقي من أفكار التقدم والتغيير والإصلاح والالتحام مع العالم لم يبق لها مكان في ساحتنا المزدحمة.. وعلى العكس فقد باتت هذه الأفكار تعبيراً عن الامركة والحزب الأمريكي والتغريب والتفريط في الثوابت الوطنية.. وذهبت تلك الرؤية في تقييم اغلب المنابر الإعلامية التي استجدت في مصر بحسبانها سائرة في تيارات الماضي والخصوصية، ومنجرفة في أعماق سحيقة من الغوغائية السياسية والفكرية.
(3)
النصوص السابقة تقدم في جانب منها صورة جذابة للخطاب الليبرالي. من ذلك الذي يلبي الأشواق ولا يكاد يختلف عليه أحد. لكنها من جانب اخر تحدد بعض المواقف التي تبلورت في إشارات متعددة سأكتفي بتسجيلها الآن ثم أعود إليها بعد قليل. منها مثلاً الدعوة إلى تخليص العقل من عقد الغزو الثقافي والهيمنة الاقتصادية، وانتقاد ما سمي بابتذال الوطنية خلال نصف القرن الأخير (الذي يشمل المرحلتين الناصرية والساداتية)، والسخرية من الحديث عن المؤامرات العالمية ومن متابعة الكفاح ضد الإمبريالية، والتهكم على استخدام مصطلحات الخصوصية والثوابت، واصفاً إياها بأنها من تجليات الغوغائية السياسية الفكرية!
على صعيد ثالث فان الخطاب تبنى موقفاً دفاعياً حين استبق، وبادر إلى التنديد بالذين انتقدوا الامركة والحزب الأمريكي والتغريب، وكأنه يقول: ما هكذا توصف أفكار التقدم والتغيير والإصلاح.
فضلاً عن ذلك، تستوقف المرء آراء وأفكار أخرى، أخص بالذكر اثنتين منها هما:
* أن أحد الكتاب اسقط تماماً قضية فلسطين من التعليق على ما تبقى من اتفاقيات كامب ديفيد، ووصف الولايات المتحدة بأنها دولة عظمى لها مصداقيتها (!!) عند الطرفين العربي والإسرائيلي. وذكر أن نزع الإطار العاطفي والانفعالي من المشكلة على الجانبين المصري والإسرائيلي، كفيل بحل المشكلة - هكذا بمنتهى السهولة. وكأن مشكلتنا مع اسرائيل عاطفية وانفعالية لا اكثر. (هل تذكر حكاية الحاجز النفسي؟)
* في حوار اجري مع كاتب آخر القي عليه سؤال هذا نصه: تناولت مقالاتك الأخيرة دعوة إلى العودة للجذور المصرية والابتعاد عن مفهوم العروبة، فهل يصلح ذلك للمرحلة التي تمر بها المنطقة؟ - في رده أجاب الكاتب: لا يستطيع أحد أن ينكر أننا لسنا عرباً عرقاً، ولكننا عرب ثقافة. أصبحنا عرباً بحكم ما سار بيننا من ثقافات عربية لسنوات طوال. لكننا بحكم العرق والجذور لسنا كذلك.. وربما لا يكون هناك تناقض بين العروبة والقومية المصرية، ولكن يجب أن تأتي القومية (المصرية) في المقدمة. ومن المهم جداً أن نعرف من نحن، حتى نفعل من قوميتنا كدافع للنهوض والتقدم.
سئل الكاتب بعد ذلك: معنى ذلك انك ترفض المفهوم السائد للقومية العربية؟ - فأجاب: لنعترف بان العرب أشتات متفرقة. ورغم العديد والعديد من محاولات الاتحاد، إلا أنها جميعاً باءت بالفشل. وفي فترة سابقة كانت هناك مفاهيم المد القومي والقومية العربية، إلا أنها كانت مجرد خطاب سياسي انتهى زمنه ولم يعد صالحاً للعصر الحالي.
(ملحوظة ربما كانت ذات صلة بالسياق: على صدر الصفحة الأولى من المطبوعة ظهر التقويم الإفرنجي وحده، واسقط التقويم العربي تماماً، أول مرة في تاريخ الصحافة المصرية).
(4)
ادري أن تقييم النموذج الليبرالي الذي نحن بصدده بناء على مادة منشورة في إصدار واحد لا يخلو من تسرع، وربما اقتضى الإنصاف أن يتم التقييم في ضوء مطالعة للأعداد الخمسة الأولى على الأقل. لكنني انبه إلى أنني لست بصدد اجراء ذلك التقييم، ولست مشغولاً به. وإنما محاولتي لا تتجاوز حدود قراءة الرسالة التي تضمنها الإصدار الأول، من خلال ما عبر عنه أركان المشروع، وما تضمنه الإصدار من إشارات وإيحاءات سلطت الضوء على الوسائل والمقاصد.
ما قيل عن الحريات وحكم المؤسسات والتعددية والشفافية ودولة القانون.. الخ كلام نطرب له لا ريب، يعبر عن أحلامنا وأشواقنا، لكن ثمة إشارات تبعث على القلق منها مثلاً تلك الدعوة إلى تخليص العقل (المصري) من عقد الغزو الثقافي والهيمنة الاقتصادية. ذلك أن المرء لا بد وان يتساءل عما اذا كان الغزو الثقافي حقيقة أم وهماً، وبالتالي فهل هو مجرد عقدة نفسية أم مشكلة نصادفها في حياتنا اليومية، اذا كان حقيقة فهل الغزو المقصود هندي او برازيلي او إيطالي؟ ام ماذا؟ - حين قلبت الأمر وجدت انهم في فرنسا يتحدثون عن الغزو الثقافي الأمريكي، وفي كندا يستفزهم ذلك الغزو حتى اصدر مؤخراً أحد مثقفيهم كتاباً عنوانه: أيها الأمريكيون عودوا إلى بلادكم (يانكي جو هوم). إزاء ذلك تساءلت هل هؤلاء واهمون ومعقدون أيضاً، وهم الغربيون الذين هم اقرب إلى الولايات المتحدة منا. كان الرد أن الغزو الثقافي حقيقة، وان هؤلاء الذين ينددون به في فرنسا وكندا ليسوا أعداء للولايات المتحدة ولكنهم ببساطة يحترمون ثقافتهم ويغارون عليها.
ثم ما المقصود بالهيمنة الاقتصادية التي يريد لنا أن نتخلص من عقدتها؟ - أن كلمة الهيمنة لصيقة بالولايات المتحدة وقد لاحقتها التهمة بشدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرد واشنطون بصدارة الساحة الدولية. ولكن الهيمنة المقصودة في هذا السياق تنسحب على النفوذ السياسي بالدرجة الأولى. وفي حدود علمي فان التحذير من الهيمنة الاقتصادية في المنطقة خصوصاً خلال السنوات الأخيرة كان منصباً على الدور الإسرائيلي. وقد عبر عن ذلك صراحة شمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق في كتابه حول شرق الأوسطية، حين تحدث عن اسرائيل باعتبارها العقل المدبر والمفكر وقائد الفريق (المايسترو) الذي سوف يستثمر المياه التركية والعمالة المصرية والنفط الخليجي.
اذا صحت تلك القراءة - أرجو ألا تكون صحيحة - فليس من معنى لتلك الدعوة التي وردت على صدر الصفحة الأولى من المطبوعة، سوى أنها تعلن موقفاً مبطناً مؤيداً للامركة وللتطبيع مع اسرائيل في الوقت ذاته. يعزز ذلك الشك قرائن أخرى منها التعبير عن الاستياء والاستنكار في موقع آخر لاستخدام مصطلحات من قبيل الامركة والتغريب، وكأنها بدورها من العقد المراد التخلص منها لتأسيس الثقافة الليبرالية المبتغاة.
من القرائن أيضاً تلك السخرية من انشغالنا بمواجهة المؤامرات العالمية، ومتابعتنا للنضال ضد الإمبريالية، التي اختلطت بتهكم مشوب بالازدراء على ما نتصوره خصوصيات وثوابت وطنية.
ان المرء حين يضع هذا الكلام جنباً إلى جنب مع سابقه سيجد أن هذا الخطاب الليبرالي المستجد يدعونا إلى الامركة والتطبيع، وفي الوقت ذاته يحثنا على التخلص من الثوابت والخصوصيات ومن الانشغال بالتصدي لما يدبر لنا من مؤامرات. وهو تفكير يبدو منطقياً، لان النجاح في الدعوة الأولى لا يتحقق إلا اذا تمت الاستجابة للدعوة الثانية. إذ لكي ترتمي في اتجاه الامركة والتطبيع، لا بد أن تنخلع من كل ما يشدك إلى أرضك، من ثوابت وخصوصيات.
(5)
قبل أربعين عاماً بالضبط (في عام 1963) اصدر المؤرخ والمفكر الفلسطيني الأصل الدكتور محمد عزة دروزة كتاباً نفيساً كان عنوانه (عروبة مصر قبل الإسلام وبعده)، ضمن سلسلة من سبعة أجزاء حول تاريخ الجنس العربي. وفيه اثبت أن عروبة مصر أصفى من عروبة بلاد الشام والعراق، لان مصر لم تعرف كتلاً أعجمية العنصر واللغة. ولم تتعدد فيها الطوائف الإسلامية وانقسامها شيعاً متنوعة، كما هو الحال في الشام والعراق، وقد عدت إلى قراءة الكتاب مجدداً بعدما صدمني ما نشرته المطبوعة على لسان أحد الكتاب المرموقين من أن المصريين ليسوا عرباً عرقاً ولكنهم عرب ثقافة فقط، شأنهم في ذلك شأن الأكراد والبربر والزنج. علماً بأن العروبة منذ كانت هي عروبة اللسان (كما قرر الحديث النبوي) وليست عروبة العرق.وجدت أن الأمريكيين ذوي الأصول الإيطالية او الايرلندية او البولندية او غيرهم يعتزون بامريكيتهم، رغم أن أجدادهم لم يهاجروا إلا منذ بضع عشرات السنين. واستشعرت وخزاً وألماً شديدين حين قرأت الكلام الذي نحن بصدده. وكانت الصدمة مضاعفة، مرة لمضمون الكلام، ومرة أخرى لأنه صدر عمن نعتز به ونقدره. إن الكلمات الجميلة التي قيلت عن الليبرالية تبدد أثرها واحدة تلو الأخرى حين تلمست بصمات الشيطان التي تسربت عبر التفاصيل، فشوهت صورة الجميع وكانت الليبرالية المرتجاة أول الضحايا.
في الحديث النبوي ان الشيطان يكبل في شهر رمضان، ولم يخطر على البال انه يمكن ان يكبل هنا، بينما يطلق هناك، ولكنها معجزات الليبرالية الحديثة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.