أن التاريخ يقول لنا ومن خلال تراكم التجارب التي عاشتها الشعوب العربية خلال سبعين سنة بأنها لم تعد تتحمس لأي وحدة أو ارتباط أيديولوجي رغم جاذبيتها حيث جاءت كل الشعارات آنذاك من اجل الإمساك بالسلطة هناك أصوات تتشدق بالقومية بحالة من التشنج والانفعال دون فهم لخلفياتها وسياقاتها وتجاربها التاريخية، وهؤلاء يغلب عليهم الشعور العاطفي دون استيعاب للمفهوم وتحولاته المعرفية، ولذلك أصبح مصطلح القومية ملتبسا ومختلطا بمفاهيم أخرى في تاريخنا المعاصر، بسبب ما لعبته هذه الحركات السياسية من دور رئيسي في ذلك بهدف ترويج مشاريعها وأجندتها. على أن التاريخ يقول لنا ومن خلال تراكم التجارب التي عاشتها الشعوب العربية خلال سبعين سنة بأنها لم تعد تتحمس لأي وحدة أو ارتباط أيديولوجي رغم جاذبيتها حيث جاءت كل الشعارات آنذاك من اجل الإمساك بالسلطة. ولعل من عاصر واحدة من تلك الأيديولوجيات التي عادة ما يطرحها القوميون والبعثيون والشيوعيون، يجد ان طروحاتهم لا تختلف عن الفاشية أو فلسفة النازية، لسبب وجيه يكمن في انه يقودك لنتيجة واحدة حيث البطش والديكتاتورية والاستبداد. بدءا بمشروع عبدالناصر السلطوي، ومرورا بأفعال حزب البعث العفنة والمريضة في العراق وسوريا من قتل وتعذيب وتصفية لتصبح عنوانا لحكم الفرد المستبد عوضا عن شعار الأمة الخالدة الذي دُفن في مهده، وانتهاء بالشيوعية التي لفظت أنفاسها مبكرا ولم تجد لها مستقرا إلا في اليمن الجنوبي حينما دفع الشعب ثمن حياته ضحية لصراعات زعمائه. ناهيك عن أن شعار الإسلام لم يسلم هو الآخر من التوظيف فتمت أدلجته سياسيا واستغلاله في أفغانستان وغزة والضاحية الجنوبية في لبنان من اجل الوصول للسلطة. وفي هذا السياق لابد أن نستحضر صدام حسين كأحد النماذج التي كرست هذا النمط النفعي والانتهازي عندما جمع الاشتراكية بالدين آنذاك، وأعلن تغيير علم العراق الجديد داعيا المسلمين إلى مواجهة الغزو الأمريكي. هذا السلوك سبق أن انتهجته الناصرية، والملفت أن القذافية أيضا لم تتوان عن تطبيقه ما يعني أن استغلال المصطلح هو قاسم مشترك بين الديكتاتوريات. وبرغم ما قيل ان القومية العربية تشكلت كمفهوم مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بطروحات الرواد آنذاك أمثال عبدالرحمن الكواكبي وساطع الحصري وقسطنطين زريق ومحمد عزة وميشيل عفلق، وكانت تهدف الى مسعى نبيل بتمجيد العرب ووحدتهم، إلا أنها سقطت في الفخ وفشلت كما ذكرنا، بسبب مأزق توظيفها السياسي وارتباطها في مرحلة من المراحل بالفكر الاشتراكي. على ان العرب يعيشون معضلة وتخبط وضبابية وعي، فكل المفاهيم والثوابت التي كونت مصادر وحدتهم تم تفريغها من محتواها على مدى السبعة العقود الماضية. صحيح ان الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية،من خلال سايكس وبيكو، جزأتا العرب في القرن الماضي إلى ارض مكبلة بقيود وحواجز وثقافات محلية، لاسيما بعد أفول الإمبراطورية العثمانية ،غير ان الواقع يشير إلى ان العرب هم من يتحملون سبب إخفاقاتهم غير غافلين بالطبع التأثير الخارجي الذي ساهم بدور ثانوي، بدليل ان دعاة القومية العربية لا ينفكون يستخدمون طرقا وأساليب ملتوية وماكرة في تبرير فشلها الدائم والمتكرر، فلم نعد نسمع سوى إلقاء اللوم على الآخرين من خونة وعملاء ، وأنها المؤامرات وأجندة الاستعمار ومخططاته. باتت هذه اسطوانة مشروخة أصابتنا بالملل والسأم، ولعل ما يدفعنا للمزيد من الإحباط ان تلك الفئات لم تطرح على نفسها سؤالاً تأمليا جادا يتمثل في : يا ترى إلى من يعود سبب هذا الفشل؟ إن فكرة القومية العربية رغم جاذبيتها تعني العرق العربي، مع ان لدينا مواطنين في عالمنا العربي ليسوا عربا، بل بربر وكرد وتركمان ويحملون جنسية دولهم العربية ومع ذلك فانا لست ضد رابطة العرق طالما أنها تعبر عن ثقافة وانتماء حضاري، ولكنني ضدها عندما يتم تسييسها واستغلالها من منظور عصبي وشوفيني مقيت بات مرفوضا في عالمنا الحديث . ولعل سؤالنا الجوهري الفائت جدير بالدراسة ويحفز على التأمل حول فشل التجارب الوحدوية بدليل انهيار الوحدة ما بين مصر وسوريا أو مشروع وحدة العراق مع الأردن أو الأفكار الوحدوية التي أرهقنا بها القذافي ومن قبله عبدالناصر. وليس مستغربا أن يخطئ القوميون، ولكن من العجيب فعلا أنهم لا يتعلمون من أخطائهم. وبالعودة لضبابية المفاهيم وخلط أوراق المعاني ، نقول ان هنالك محددات وتعاريف دقيقة لتلك المصطلحات من قومية وعروبة ووحدة عربية، تم بعثرة مفاهيمها وإقحامها في مواقف معينة ليتم تسويقها وباحترافية لتحقيق المراد منها. ولئن كانت اللغة العربية، هي لغة الثقافة العربية، فان كل إنسان عربي، هو عربي اللسان، لكن ليس بالضرورة آن يكون عروبيا، فالحديث بأي لغة لا يعني بالضرورة حالة انتماء وتاريخ وثقافة لهذه الأمَّة أو تلك. فالعروبة ، وليس القومية العربية ، هي جزء من أجزاء مترابطة، ولا تتعارض أو تلغي الرابطة القبلية أو الوطنية. ولذلك هناك من يرى بأنها كسمة كانت موجودة كثقافة ولغة قبل ظهور الإسلام، ثم تحولت إلى حضارة وهوية انتماء من خلاله وبعده، وتشكل آنذاك وعبر مراحل تاريخية كيان سياسي واحد على أساس ديني إسلامي لا قومي عربي. لكن الالتباس الذي ذكرناه يكشف هنا عن خلط جديد حول مضمون القومية، كون تعبيرها لا يعكس بدقة معنى العروبة، فالقومية السورية مثلا ترتكز على الحيز العقدي، في حين ان "القومية الكردية" أو "البربرية" تستند على المرجعية العرقية. في حين ان الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، بينما الدعوة إلى الوحدة العربية هي دعوة حركية وسياسية. ولذا فالانتماء إلى العروبة ينطلق من الوجدان والاختيار وليس الفرض والإكراه، بينما الوحدة العربية العقلانية وليست الوجدانية تعبر عن مصدر إلزام وكيان سياسي بحكم فرض القوة والمصالح المشتركة كالاتحاد الأوروبي مثلا الذي لا تنتمي شعوبه لأمة واحدة. على أي حال، عالمنا العربي بحاجة إلى التعاون ككتلة منتجة، وان تنزع دوله إلى الارتهان للواقعية السياسية والبحث عن لغة المصالح المشتركة. ومرادنا هنا لا يعني البكاء والعويل على واقع عربي مؤسف وإنما البحث عن فكر تنويري يسعى لمعالجة الواقع لا لتكريسه. فهذه أوروبا تتوحد بلا قومية والعالم العربي لا زال يعاني الحيرة والتخبط والتمزق، ليزيده دعاة القومية التقليدية تشظيا وألما!!.