العروبة، وليس القومية العربية، هي جزء من أجزاء مترابطة، ولا تتعارض أو تلغي الرابطة القبلية أو الوطنية. ولذلك هناك من يرى بأنها كهوية كانت موجودة كثقافة ولغة قبل ظهور الإسلام، ثم تحولت إلى حضارة وهوية انتماء من خلاله وبعده، وتشكل آنذاك وعبر مراحل تاريخية كيان سياسي واحد على أساس ديني إسلامي لا قومي عربي. ومع ذلك فالوعي بضرورة الوحدة يعتبر حديثاً مع سقوط الدولة العثمانية والغزو الخارجي ممثلا بحملة نابليون. غير ان تأسيس الفكرة القومية كما يقول شمس الدين الكيلاني جاء من الافغاني الذي هزأ من فكرة تتريك العرب آنذاك وحذا محمد عبده حذو أستاذه مؤكداً على هوية مصر العربية ثم جاء محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده، الذي التحم بالقضية العربية. كما أن الكواكبي أكد في طبائع الاستبداد على ضرورة استرجاع دور العرب الريادي. وجاء الجيل الثاني الذي مثله ساطع الحصري الذي رأى الوحدة العربية في جانب المنفعة أكثر جانبها العاطفي ووضع لها ثلاثة أركان لتقوم الدولة القومية المؤلفة من خدمة عسكرية ومجالس تمثيلية ونظام تربوي. ثم جاء الجيل الثالث للقوميين العرب يتقدمهم ميشيل عفلق الذين ظهروا في ثلاثينيات القرن الماضي، كان يرى أن الخلل هو موضوع الأمة وليس الدولة. وكان يقول "إن الشخصية العربية أساس البعث العربي والإيمان برسالة خالدة للعرب هو الدافع العميق لكل بعث" طبعاً هو اشترط وحدة الروح بالإضافة إلى الحرية والاشتراكية. قلت سابقاً إن فكرة القومية العربية رغم جاذبيتها تعني العرق العربي، مع أن لدينا مواطنين في عالمنا العربي ليسوا عرباً، بل بربر وكرد وتركمان ويحملون جنسية دولهم العربية ومع ذلك فأنا لست ضد رابطة العرق طالما أنها تعبر عن ثقافة وانتماء حضاري، ولكنني ضدها عندما يتم تسييسها واستغلالها من منظور عصبي وشوفيني مقيت. لكن الالتباس الذي ذكرناه يكشف هنا عن خلط جديد حول مضمون القومية، كون تعبيرها لا يعكس بدقة معنى العروبة، فالقومية السورية مثلاً ترتكز على الحيز العقدي، في حين ان "القومية الكردية" أو "البربرية" تستند على المرجعية العرقية. في حين ان الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، بينما الدعوة إلى الوحدة العربية هي دعوة حركية وسياسية، ولذا فالانتماء إلى العروبة ينطلق من الوجدان وليس الإكراه، بينما الوحدة العربية العقلانية تعبر عن مصدر إلزام وكيان سياسي بحكم فرض القوة والمصالح المشتركة. بات واضحاً أن المفاهيم التي كونت مصادر وحدة العرب تم تفريغها من محتواها على مدى السبعة العقود الماضية. صحيح ان الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية من خلال سايكس وبيكو، جزأتا العرب في القرن الماضي إلى أرض مكبلة بقيود وثقافات محلية. وان تلك العوامل التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية كرست مناخاً ملوثاً، بدليل الدخول في مرحلة الاستعمار، واستيلاء الحلفاء على البلدان، وسقوط الدولة العثمانية، وظهور الاتحاد السوفيتي كثورة مناهضة للغرب، إلى أن جاء النظام العالمي الجديد الأحادي القطب بزعامة الولاياتالمتحدة الأميركية. غير أن الواقع يشير إلى أن العرب هم من يتحملون سبب إخفاقاتهم غير غافلين بالطبع التأثير الخارجي الذي ساهم بدور ثانوي، ولعل المثير للدهشة هو ان دعاة القومية العربية لا ينفكون يستخدمون طرقا وأساليب ماكرة في تبرير فشلها المتكرر، وإلقاء اللوم على الآخرين من خونة وعملاء، وأنها المؤامرات وأجندة الاستعمار ومخططاته. إلا ان سبب هذا الفشل الذريع وبروز ذلك الخطاب كما أتصور يعود إلى الأدلجة إن جاز التعبير أو لنقل الأيديولوجيا لهذه الحركة أو تلك. ولذلك كان من الطبيعي أن يتم تكريس الممارسة الديكتاتورية منذ القدم وإلى يومنا هذا، ولم يعد ممكناً إقامة مجتمع مدني في عالم عربي لا يؤمن بالمنهج الديمقراطي، فالمذهبية والطائفية والعنصرية والقبلية أمراض وعلل استشرت ولا زالت تنهش الجسد العربي. على أن ثمة أصواتاً تتشدق بمصطلح القومية بخليط من التشنج والاندفاع دون فهم لخلفياتها وسياقاتها وتجاربها التاريخية، فأصبحت مصطلحاً ملتبساً في تاريخنا المعاصر، بسبب ما لعبته تلك الحركات السياسية من دور رئيسي في ذلك بهدف تحقيق أجندتها. وفي هذا السياق، يقول لنا التاريخ ومن خلال تراكم التجارب التي عاشتها الشعوب العربية خلال سبعين سنة بأنها لم تعد تتحمس لأي وحدة أو ارتباط أيديولوجي رغم جاذبيتها حيث جاءت كل الشعارات آنذاك من أجل الإمساك بالسلطة. ولعل من عاصر واحدة من تلك الأيديولوجيات التي عادة ما يطرحها القوميون والبعثيون والشيوعيون، يجد أن طروحاتهم لا تختلف عن الفاشية أو فلسفة النازية، لسبب وجيه يكمن في الديكتاتورية والاستبداد، بدءاً بقومية عبدالناصر التي دمرت العرب، ومروراً بأفعال حزب البعث الدموية في العراق وسورية عوضا عن شعار الأمة الخالدة الذي دُفن في مهده، وانتهاء بالشيوعية التي لفظت أنفاسها مبكراً ناهيك عن أن شعار الإسلام لم يسلم هو الآخر من التوظيف فتم توظيفه سياسياً واستغلاله. صفوة القول على العرب، وبعيداً عن الشعارات، القيام بمراجعة نقدية لأوضاعهم بالارتهان للواقعية السياسية وإطلاق فكر حر تنويري لعلاج الخلل لا لتكريسه، والإيمان بقدراتهم وتحمل المسؤولية في الاعتراف بأخطائهم، وتسمية الأشياء بأسمائها هذا إذا أرادوا فعلاً الخروج منها.