الحمد لله الذي امدنا بفيض نعمه.. ونعمائه وغمرنا بواسع فضله ان بلغنا عودة الشهر الكريم شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن.. شهر ليله قيام, ونهاره صيام, وبين هذا وذاك ترتقي الارواح بالمناجاه فتطمئن القلوب وتسر النفوس وتنشرح الصدور بلقاء المحبة التي يولدها الايمان المتأصل في نفوس وجدت حلاوة القرب فتاقت لمواصلة الرقي في معارج الفيض الالهي في هذا الشهر الذي فضله الله على كل الشهور وميزه بليلة هي خير من الف شهر (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) الآية 158 سورة البقرة وقوله تعالى (انا أنزلناه في ليلة القدر وما ادراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر سلام هي حتى مطلع الفجر) وبشر به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فيما روي عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (قد جاءكم شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه ابواب الجنة وتغلق فيه ابواب الجحيم وتغل فيه الشياطين.. فيه ليلة خير من الف شهر من حرم خيرها فقد حرم) وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: يا أيها الناس قد اظلكم شهر عظيم مبارك.. شهر فيه ليلة خير من الف شهر.. شهر جعل الله صيامه فريضة وقيامه تطوعا من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن ادى فيه فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزداد رزق المؤمن فيه من فطر صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار.. وكان له مثل اجره من غير ان ينقص من اجره شيء. قالوا يا رسول الله ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة او على شربة ماء او على مذقة من لبن.. وهو شهر اوله رحمة واوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.. واستكثروا فيه من اربع خصال: خصلتين ترجون بهما ربكم وخصلتين لا غنى بكم عنهما.. فأما الخصلتان اللتان ترجون بهما ربكم فشهادة ان لا اله الا الله وتستغفرونه.. واما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار.. ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة). هذه هي البشرى, بشرى من لا ينطق عن الهوى لأمته بما اعده لهم ربه ووعدهم به من الجوائز لان في هذا الحديث المفضل دلالة كبيرة على ما لهذا الشهر من الخصائص الالهية التي يختص بها شهرا من الشهور, وهي خصائص حملت البشائر العظيمة بما اعده الله لعباده المؤمنين من الجوائز السخية التي لا تمنح الا من خالق عظيم, وهي جوائز ومزايا عظيمة كفيلة بشحذ الهمم ومضاعفة الاجتهاد والاخلاص في العمل واستغلال ذلك الموسم العظيم الذي تطرح فيه البضائع والسلع فيكسب المجيدون ويخسر المهملون اللاهون عن الفرائض الربانية والتوجيهات النبوية حيث المطلوب المسابقة الى الخيرات بانواعها اقوالا وافعالا ليفوزوا في المرابحة التي يتنافس فيها المتنافسون في الآخرة فتنهال عليهم الارباح من كل مكان وتهون عليهم المباذل والتضحيات وتكاليف الطاعات وترك الشهوات.. ان هذه الميزة التي ميز الله بها هذا الشهر على غيره لا يمكن تحقيقها الا بالصيام وما ادراك ما الصيام. قال الدكتور محمد عبده يماني: العبادات في الاسلام صلة بين العبد وربه تزكى بها الروح ويطهر بها القلب وينشرح بها الصدر ويزداد بها حب العبد لله وقربه منه.. وبعد ان عدد انواع العبادات قال عن الصوم: فان الصوم امساك عن شهوة البطن وصبر على الجوع والعطش امتثالا لأمر الله وتحقيقا لحكمة الخالق (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) الآية 197 سورة البقرة. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم امته الى جعل الصوم طريقا ترتقي به النفس الى اسمى الدرجات وترتفع به عن كل الدنيات. وعن فضل الصوم جاء في الحديث: عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عمل ابن آدم له الا الصيام فانه لي وانا اجزي به.. والصيام جنة فاذا كان يوم صوم احدكم فلا يرفث ولا يفسق فان سابه احد او قاتله فليقل اني امرؤ صائم.. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم اطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك.. وللصائم فرحتان يفرحهما, اذا افطر فرح بفطره واذا لقى ربه فرح بصومه) رواه مسلم. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الاعمال الظاهرة للمسلم كالصلاة والزكاة والحج هي للانسان في الدنيا لانه ملزم بأدائها ولا يمكن اخفاؤها اما الصوم فانه عبادة مستورة بين العبد وبين ربه لا يعلم بصحتها الا الله وبذلك فانه سبحانه وتعالى اعلم بصدق النوايا وصحة الاعمال ومجازاة القائمين بها حسب درجات الجودة والاتقان لان الصوم كما يقول الامام الغزالي على ثلاث مراتب: المرتبة الاولى صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة وهو كف وترك ليس فيه عمل يشاهد حيث يكون الصوم في الباطن بالصبر المجرد وفيه قهر للشيطان الذي سهل سبيل الشهوات للوصول الى النفس البشرية التي تقوى بالطعام والشراب. وصوم الخصوص وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل عن الآثام وصوم خصوص الخصوص فهو صوم القلب عن الهمم الدنية والافكار الدنيوية.. وكفه عما سوى الله بالكلية وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين.