هل تعرفون أن السنوات التي بعد الستين قد تكون من أجمل مقاطع الحياة في عمر أي شخص ، لو أحسن استثمارها والتخطيط لها ، وهل تعرفون أن هذه المرحلة التعاقدية قد تكون من أكثر مراحل العمر بؤسا عندما لا نخطط لها وتواجهنا مثل الكابوس في يوم العمل الأخير. أكتب لكم هذا وأنا أعرف رجلا أصيب بالكآبة الشديدة المقعدة في تقاعده ، وطعن فجأة في السن وفقد كما يبدو الرغبة في الحياة، على أني سأكتب لكم عن الشخص الآخر الذي يعيش حياته بعد التقاعد لحظة بلحظة ، وكأنه يعيد تجربة حياته من جديد ، وهو دائما طليق الوجه ، بادي العافية ، وكأنه فجأة عثر على ينبوع الصبا.. كلنا نحب الحرية ، وكلنا نعمل ما في وسعنا للحصول عليها ، وفي نفس الوقت نقاتل ونجاهد للحفاظ على أعمالنا حتى الرمق الأخير ، ونعتبر أن سن التقاعد مقصلة يجب ألا تحصد رؤوسنا ، وإن جاء التقاعد فهي موسى المقصلة هوت على الرؤوس ، لماذا لا نتعامل مع التقاعد على أنه موعد مع الحرية ؟ موعد لترتيب حياتنا كما نشاء ، موعد لننهي أعمالا كنا نود الانتهاء منها منذ زمن ومنعنا عن ذلك الارتباط الوظيفي ، موعد مع أعمال جديدة ، ونشاطات جديدة ، ومشاركات في المجتمع جديدة ، وتوظيف القيمة الحيوية للعمر لعمل مجد ونحن نرأس أنفسنا بأنفسنا ونقصد بأعمال مجدية أن تكون آمالا للدنيا وأعمالا مجدية ليوم الدينونة.. زميل لي بعيد عن السن التقاعدي ومع ذلك طلب تقاعدا مبكرا .. واليوم يبدو وكأنه ولد من جديد. وأقول عجيب أن نسلم أنفسنا لقيود وأصفاد الوظيفة ونحن محبون للحرية ، ونحن نبرر ذلك أننا متعلقون بأعمالنا محبون لها ، وأننا لو خرجنا من أعمالنا انتهينا! مثل السمكة التي تخرج من الماء فتموت إن لم تعد إليه . على أننا لسنا سمكا، ولكن نملك عقولا وعقولنا هذه يجب أن تقبل أن يوم التقاعد آت لا محالة إن كنا موظفين، وأنه يجب للصحة البدنية والصحة العقلية والصحة النفسية أن يأتي ، فالذين يديرون أعمالا خاصة لابد أن يخططوا لمرحلة التقاعد. إن مرحلة التقاعد قد تكون من أحلى مراحل العمر وأمتعها لأنها لنا وحدنا ، تخصنا وحدنا ، نفعل بها ما نمليه نحن على أنفسنا وليس ما يمليه الآخرون علينا .. على أن يكون لنا برنامج ، وخطة ، أو هواية نقضي بها الوقت جميلا رائقا.. أرجع معكم لذلك المتقاعد الذي يتفجر الآن طاقة ونشاطا وجذلا للحياة، فهو أولا محب للسفر ، فهو يسافر لأكثر من بلد ويصحب زوجته معه ، ويقول أنهما بالفعل تعارفا من جديد وتجدد حبهما حيويا مثل أيام الشباب فهما يقضيان - كما قال - شهر عسل طويلا ، ولأنه يحب الكتابة ولم يستطع أيام الوظيفة أن يلبي نداء هذه الهواية، فهو بدأ يكتب المقالات عن رحلاته وينشرها في الصحف ثم أنه يقدم خدمات اجتماعية واستشارية متعددة.. يقول لي هل تعرف ارتباطي مع التعاقد ، إنه ارتباط بلا عقد، ولكنه أرتباط حر جميل مع الحياة .. وأظنه صادقا كل الصدق، وإلا ما هذه السعادة التي تصاحبه على الدوام؟! د. ناصح