الوظيفة بحقوقها وواجباتها بوصفها عقدا بين الموظف والجهة التي يعمل بها هي ميثاق للعمل والجهد الذي يتطلب التزاماً بالوقت وأداءً بإخلاص وأمانة لما يوكل إليه من مهام ، وهذه الوظيفة كونها تمثل مصدراً لمعيشة الموظف تحتم عليه هذا الارتباط الذي يستمر لسنوات يحددها النظام تنتهي بالتقاعد سواء المبكر أو النظامي أو الاستقالة التي تنهي ارتباط الموظف بجهة عمله . لماذا لا نكرر تجربة التقاعد في تلك الشركة في القطاع الحكومي ؟ ما المانع من أن يكون تقاعد الموظف نظامياً بعد خمس وعشرين سنة والموظفة بعد عشرين سنة ؟ لماذا يظل الموظف يعمل حتى يشتعل رأسه شيبا ، وتنتهك جسده الأمراض بسبب الإرهاق النفسي والجسدي ؟ أليس في تقاعد الموظف مبكراً فائدة للوظيفة والوطن حدثني أحد الأصدقاء ممن كان يعمل في إحدى شركاتنا الوطنية الكبرى وكان يتبوأ مركزا وظيفياً وقي اديا مرموقاً كونه تدرج وظيفيا بشكل سريع وابتعث وتخرج من أكبر الجامعات الأمريكية ، يقول : إنه بعد سنوات من العمل المضني الذي يستمر يومياً اثنتي عشرة ساعة وما تبقى من النصف الآخر من اليوم كانت طبيعة الوظيفة تلزمه بجعل هاتفه النقال بالقرب من وسادته ليكون على أهبة الاستعداد للتجاوب السريع والرد المباشر على الخط الساخن حين الطلب وكثيراً ما كان العمل يتطلب حضوره وتواجده ليلاً لينهض من نومه العميق بعد يوم عمل مرهق وليركب سيارته ويتوجه إلى مقر عمله ليواصل العمل فيما تبقى من ساعات اليوم ، هذا العمل الشاق نفسيا وجسدياً كانت تقابله مميزات وظيفية في الراتب والسكن والعلاج لكن ذلك كان على حساب أسرته وأبنائه وبناته الذين لم يكن يشاهدهم أو يجلس معهم إلا لماماً . التقيته بعد فترة انقطاع طويلة وإذا بصاحبي تبدو عليه ملامح الراحة والسعادة تبادلت معه أطراف الحديث ليفاجئني بأن جهة عمله قدمت نظاماً جديداً للتقاعد وبعد أن درس العرض جيداً ومن مختلف جوانبه اتخذ وبعد الاستشارة والاستخارة قراره بالتقاعد بعد ما يقارب الخمسة والعشرين عاماً من الخدمة ، ويذكر صديقي أن حياته انقلبت رأساً على عقب بعد التقاعد وبالطبع إلى الأفضل والأحسن ، ثم يقول : أحدثك الآن وأنا للتو قد وصلت من رحلة سياحية وأخطط لرحلة أخرى قريبة ، لا تتخيل كم أنا سعيد بالوقت الذي أقضيه مع أسرتي وفي هواياتي ومع أصدقائي ، أحسست أنني ولدت من جديد ، وكل ذلك انعكس على سعادتي وصحتي الأهم أنني صرت أنشر هذه السعادة لمن حولي . انتهى حديث صديقي مع أمنياتي له بسعادة لا تنتهي ، والموقف السابق أثار في ذهني كثيرا من الأسئلة : لماذا لا نكرر تجربة التقاعد في تلك الشركة في القطاع الحكومي ؟ ما المانع من أن يكون تقاعد الموظف نظامياً بعد خمس وعشرين سنة والموظفة بعد عشرين سنة ؟ لماذا يظل الموظف يعمل حتى يشتعل رأسه شيبا ، وتنتهك جسده الأمراض بسبب الإرهاق النفسي والجسدي ؟ أليس في تقاعد الموظف مبكراً فائدة للوظيفة والوطن لأننا بذلك نضخ دماءً جديدة في هذه الوظيفة ونترك مكاناً ومساحة للجيل القادم من الخريجين ؟ . والحق أنه دائما ما تتملكني الدهشة المسكونة بالعطف على أولئك الذين بلغوا من العمر عتياً وهم لا يزالون يقاومون أمراضهم وتعبهم وإرهاقهم لكي يكملوا تقاعدهم النظامي حين يبلغون الستين عاماً . وماذا بقي لهؤلاء ؟ لكننا حين نلوم فلنلتمس لهم العذر فقد تكون ظروف الحياة والمعيشة هي من أجبرت هؤلاء على البقاء والتضحية بأعمارهم لتوفير الحياة الكريمة لأسرهم ففي هذه السن المتأخرة تزيد التزامات الموظف فيما يتعلق بتوفير السكن لأسرته أو تزويج أبنائه أو توفير المستلزمات الضرورية لهم ، وكل ذلك على حساب صحة ذلك الموظف الذي يتجاذبه أمران : أولهما وظيفته وواجباتها وثانيهما أسرته وحقوقها ؟ إنني أنادي كل الجهات بالرأفة والرحمة بهذا الموظف المتعب المسكين الذي تحيط بحياته المغموسة بالأسى والهموم سنوات طويلة من الخدمة لا بد أن يكملها ، لنخفض سن تقاعد الموظف ولنجعل هذا الموظف المواطن يعيش ما تبقى من حياته في سعادة لا أن يعيش ما بقي وهو ينتظر المرض والموت . twitter: @waleed968