الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين، اما بعد : فان للحرم مكانة كبيرة، ومنزلة عظيمة لا تقارن بغيرها أبدا، حيث انه مهوى أفئدة المسلمين جميعا، وقبلتهم، والذي يقصدونه لاداء احد اركان الاسلام العظام، ألا وهو الحج الذي لا يتم اسلام المسلم المستطيع بدونه، كما ان للبلد الحرام مميزات وحدودا ليست لغيره، وفيه من الآيات والاماكن المباركة ما ليس في غيره، يقول الله تبارك وتعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). وثبت في صحيح مسلم عن ابي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الارض قال : (المسجد الحرام) ، قلت ثم اي؟ قال : (المسجد الأقصى)، قلت : كم بينهما؟ قال : (اربعون عاما، ثم الارض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصل). يضاف الى ذلك بركة هذا البلد الحرام لتضاعف العمل فيه، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، فان الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة)، وقد ذهب كثير من اهل العلم الى ان المضاعفة هنا شاملة جميع الحرم، والمسجد داخل فيه. وفي مقابلة ذلك : تضاعف السيئات كيفا اذا فعلت في الحرم، فخطر وضرر فعل السيئة اشد واعظم اذا ارتكبت في البلد الحرام، وهذان الامران يغيبان عن اذهان كثير من المسلمين. يقول الله تبارك وتعالى : (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم). ذهب بعض اهل العلم : الى ان هذه الآية تدل على ان الانسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وان لم يعمله، وان الالحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر الى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها الا في مكة، فما بالنا بمن يحرم فيه ويعمل على قتل الانفس البريئة، واخافة الآمنين وزعزعة الامن، ويسلك ابشع الطرق الارهابية والافسادية فيه. يقول ابن كثير بعد ان ساق الآثار الدالة على معنى الالحاد في الحرم : وهذه الآثار وان دلت على ان هذه الاشياء من الالحاد، ولكن هو اعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو اغلظ منها، ولهذا لما هم اصحاب الفيل على تخريب البيت، ارسل الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، اي : دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء، ولذلك ثبت في الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الارض خسف بأولهم وآخرهم). كما ان من المميزات البارزة للبلد الحرام انه مكان الامن والامان والايمان، فمن دخله كان آمنا، ويجب ان يؤمن، فالناس كانوا يتخطفون من حواليه ولا يصل اليه جبار، وقد وصل الى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل الى الحرم، يقول الله تبارك وتعالى : (أولم يروا انا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون). ويقول سبحانه : (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). فالله سبحانه وتعالى يذكرهم بهذه النعمة العظيمة التي جعل بها لهم حرما آمنا أمنوا فيه من السبي والقتل والغارة، وخلصهم في البر كما خلصهم في البحر، واشبعهم بعد الجوع ورزقهم من الثمرات، استجابة لدعوة نبي الله ابراهيم عليه السلام، حينما قال : (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات)، وذلك ليذعنوا له سبحانه بالطاعة والانقياد. وكذلك فان هذا البلد حرام بحرمة الله يوم خلق السموات والارض، روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض، فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة، وانه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي، ولم يحل لي الا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها الا من عرفها). فقال العباس : يارسول الله ، إلا الإذخر، فانه لقينهم، وبيوتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إلا الإذخر). واجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم. ومن هنا يجب على المسلم ان يعرف المكانة العظيمة للبلد الحرام، وما جعله الله له من حرمة ليست لغيره، فيحفظ لسانه عما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، مما لا يعود على الانسان الا بالضرر الاكيد، ويعرض الامة للفتنة والاختلاف والتنازع والتباغض، ويحفظ ايضا جوارحه عن اقتراف وارتكاب المحرمات، حتى لاتضاعف عليه السيئات، فيتعرض للعقوبة الدنيوية والاخروية. وان الله سبحانه وتعالى أنعم علينا في هذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) بنعم عظيمة وآلاء جسيمة، أولاها نعمة الاسلام والايمان، والعقيدة الصحيحة الصافية والمنهج السليم النافع، ثم ما نتمتع به من امن وامان لا مثيل لهما في كل مكان، يشهد بذلك كل احد، ويتمناهما القريب والبعيد، والعدو قبل الصديق، يضاف الى ذلك الاستقرار والطمأنينة ورغد العيش، والتي نتفيأ ظلالها كل يوم، بل كل ساعة ، وستظل هذه المواهب موجودة، ووافرة متوافرة بمشيئة الله، ما دام رائد اهل هذه البلاد رعاة ورعية، حكاما ومحكومين : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، يستمدون منها عباداتهم ، وينطلقون منها في تصرفاتهم ومعاملاتهم، ويطبقون احكامها ، وينفذون حدودها ، مصداقا لقول الله تعالى : (الذين إن مكناهم في الارض اقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). وقوله صلى الله عليه وسلم : (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله وسنتي). ورغم ما تقوم به المملكة العربية السعودية من تطبيق لشرع الله في جميع مناحي الحياة وبصورة منقطعة النظير في هذا الزمن، وكذلك كل ما تبذله من امكانيات مادية ومعنوية في خدمة الاسلام والمسلمين في كل مكان، إلا انها لم تسلم من الحاسدين والحاقدين واصحاب الهوى والشهوة والشبهة، والذين عميت ابصارهم وبصائرهم عن الحق، فتعروا عن كل فضيلة، وتلبسوا بكل رذيلة فعلية كانت او قولية، حتى انهم سلكوا طرقا لم يسلكها الاعداء في الوصول الى اهدافهم ومطامعهم المشينة والخبيثة، فبالأمس فعلوا ما فعلوا من تحريش وتشويش وسب وشتم وتلبيس وتدليس، ثم تجاوزوا ذلك كله فأوغلوا في اخافة الآمنين وازهاق الارواح البريئة عن طريق التفجير الذي وقع في مدينة الرياض ، والذي تمقته وتمنعه وتمجه وتعاقب عليه جميع النظم والاعراف الدولية، فضلا عن ديننا الاسلامي الحنيف، وعقيدتنا ومبادئنا وعاداتنا وتقاليدنا. واليوم يتم اجرام أبشع واعظم من ذلك بمراحل، وهو ما وقع في بلد الله الحرام والذي يظهر ان له ابعادا كبيرة تتمثل فيما يلي : أولا : وقوعه من نفس الفئة السابقة وبنفس الطريقة وبصورة اكبر، مما يدل على ان الأكمة وراءها ما وراءها ولكن الله سيفضح كل حاقد وحاسد ومنحرف. ثانيا : ما يراد منه من تشويه الصورة الواضحة الصادقة لهذه البلاد الطيبة في علاقتها مع البلدان الاخرى، والتي ستظل على ما هي عليه - بإذن الله - نقية صافية. ثالثا : زعزعة الامن وخلخلته واخافة الناس من مواطنين ومقيمين ولكننا نقول لكل مريد لذلك : مت بغيظك فالله ناصر من ينصره، ومعز وممكن لمن يعز دينه. رابعا : عدم فردية القيام بمثل هذه الاعمال, وانما هناك من يخطط ويدبر ويكيد، ويستغل غيره للتنفيذ، ومن هنا يجب علينا جميعا ان نضع نصب اعيننا امرين مهمين : الاول : انه لابد من الحزم مع كل عدو وخائن ومرجف، والوقوف بوجهه بقوة كائنا من كان، وعدم الثقة الا بأهل الولاء والمحبة لهذا الدين وهذه البلاد وولاة امرها وعلمائها. الثاني : ان نعلم ان صاحب الهوى والبدعة والفكر المنحرف لا تنفع معه المداراة والحكمة، ولن يكف ويبتعد عما هو عليه مهما بذل من اجل ذلك، مما يحتم علينا ان نردعه ردعا قويا، وان نضيق عليه الخناق ونحصره في زاوية ضيقة على نفسه، حتى لا يتعدى ضرره الى غيره. وان كل ذلك لن يثني من عزم ولاة امور هذه البلاد، ولن يفت من عضدهم في المضي قدما في تنفيذ حدود الله واحكامه، وتطبيق شرعه، وملاحقة المجرمين ومعاقبتهم أيا كانوا، وان المجرم او المجرمين الذين تولوا كبر هذه الحوادث سيقعون في شر اعمالهم، وسيكشف الله سترهم، وستتمكن منهم سلطات الامن ليلقوا جزاءهم - بإذن الله تعالى -. علما بأن كل رجل في هذه البلاد صغيرا كان او كبيرا، ذكرا كان او انثى، مسؤول مسؤولية تامة عن الحفاظ على امن وامان بلاده، وذلك تحقيقا لمبدأ التعاون على البر والتقوى، ولتحفظ الانفس والاعراض والاموال، ولنقف صفا واحدا في وجه كل من اراد تعكير صفو طمأنينتنا واستقرارنا، والذي تبذل دولتنا - أعزها الله ونصرها - امكانيات ومقدرات لاتتصور من أجل الحفاظ عليهما، ونحن معتقدون اعتقادا جازما بل ومتيقنون بأن كل من اراد بلاد الحرمين الشريفين بسوء، فان الله سيخذله وسيذيقه عذابا أليما، تحقيقا لما وعد الله به في قوله سبحانه : (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم). نسأل الله العلي القدير ان يحفظ علينا ديننا وامننا وامتنا وولاة امرنا، وان يرد كيد الكائدين في نحورهم، وان يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، انه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. * وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية