لاشك في ان ردة الفعل الاسرائيلية لموقف المقاومة الفلسطينية من الهندسة التي اعلنتها الفصائل الرئيسية في المقاومة الفلسطينية منفردة شكلا, ومجتمعة موضوعا بعد ان كانت هي البادئة في طرحها تعيد الى الاذهان قصة ارى انها قريبة جدا في سياقها العام مع التعامل الاسرائيلي المراوغ والقائم على محاولة استثمار او لنقل تصيد (اخطاء الآخرين) ومن ثم الانطلاق من ذلك لتكريس الامر الواقع هي قصة المفاوضات الاسرائيلية المصرية على ارض (طابا) التي انتهت بعرض القضية برمتها على التحكيم الدولي الذي اصدر حكمه التاريخي يومئذ بعروبة ومصرية ارض طابا. ... فبعد موافقة الحكومة الاسرائيلية على عرض القضية على محكمة العدل الدولية زار احد رموز اللوبي الصهيوني في امريكا اسرائيل معاقبا قيادتها على موافقتهم على عرض القضية على التحكيم الدولي في ظل شواهد ومعطيات تاريخية تؤكد على مصرية ارض طابا مما يعني في النهاية ان اسرائيل تراهن على قضية خاسرة فكان جراب احد رموز القيادة الاسرائيلية وقتها يتلخص في ان بلاده قد تعلمت من خلال تعاملها مع العرب انه مع كل مبادرة دولية تفرض على اسرائيل, وترغم بالتالي على قبولها مكرهة, فان العرب (في وقت ما سيقدمون على ارتكاب خطأ ما) وعندها ستنتهز اسرائيل الفرصة لنسف المبادرة بأكملها وعليه فقد انهى ذلك المسئول الاسرائيلي حديثه مهدئا من روع محدثه قائلا: ان اسرائيل متأكدة من ان (الطرف المصري) سيقوم حتما بارتكاب الخطأ المنتظر, وعندها ستقوم بلاده بنسف مبادرة التحكيم من اساسها, وبالتالي تكريس الامر الواقع على ارض طابا. ... وسيشهد التاريخ بان المفاوضين المصريين كانوا على قدر من الوعي والادراك للعبة الاسرائيلية, لذلك لم يرتكنوا (الخطأ المنتظر), وبالتالي صدور الحكم الدولي لصالح مصر مما ارغم الاسرائيليين في النهاية على اعادة ارض طابا الى السيادة المصرية بعيون بعيون ونظرات يقطر منهما الاسى والمرارة. ... ولان جملة المفاهيم وانماط التفكير الاسرائيلية ظلت على حالها فلقد حاول الاسرائيليون من خلال مبادرة رئيس وزرائها المجرم القديم الجديد شارون بطرح مبادرة هدنة " الأيام الثلاثة " مع فصائل المقاومة حشرها في الزاوية, وبالتالي اظهارها بمظهر الرافض (لغصن الزيتون الشاروني!!) فكان الرد الفلسطيني تمديد الهدنة المقترحة الى ثلاثة اشهر. من هنا نستطيع القول ان الموافقة الفلسطينية على الهدنة التي قابلها رفض اسرائيلي يعكسان جملة من المعطيات التي يجب التوقف امام البعض منها طويلا. ... فهي تعكس الى حد كبير مدى فهم قادة تلك الفضائل الفلسطينية ورموزها للعقلية الاسرائيلية التي ما فتئت تحاول اللعب على وتر (الرفض الفلسطيني) لكل مبادراتها التي تصب في النهاية في اطار محاولاتها المستديمة لانهاء المقاومة الفلسطينية. ... وفي الوقت نفسه تعطي ملامح واضحة للفلسفة الفلسطينية بين الفصائل الفلسطينية من جهة, وحكومة السيد محمود عباس (ابو مازن) من جهة اخرى التي تؤكد على مبدأ ألا بديل عن الحوار سوى الحوار بعد ان بدأت نذر الكارثة والمتمثلة في الخلاف الفلسطيني الفلسطيني تلوح في الافق بعد نتائج مؤتمر العقبة الذي سبق ان تحدثنا عنه في مقالات سابقة. ... فلقد انهت مبادرة (الهدنة) الحلم الاسرائيلي والمتمثل في محاولتها المستميتة في جر الشعب الفلسطيني وقيادته الى عملية مواجهة عسكرية ستزيد حتما من نهر الجراح التي غرق فيه شعبنا العربي في فلسطين منذ نكبة 1948م. ... خلال مسيرة الالف وخمسة ايام من عمر انتفاضة الاقصى المباركة, شهدت المنطقة العربية خلالها جملة من تحولات جوهرية كان ابرزها سقوط النظام العراقي الذي كان يرفع دوما شعار (دعم الانتفاضة وحقوق الشعب الفلسطيني) لا لشيء سوى اضفاء (مسحة الشرعية) على نظامه الذي كان يفتقر الى اذنى مقوماتها مما دفع بعض من (الابواق) وتلك الاصوات التي (تنعق في القضاء) على المراهنة بان عمر الانتفاضة قد قرب على النهاية فاذا بتصاعد العمليات الاستشهادية تصفعهم بحقيقة بطلان ادعاءاتهم. ... ان ملامح المرحلة القادمة, وبالذات بعد المباركة الدولية للخطوة الفلسطينية كما جاء على لسان الامين العام للمنظمة الدولية (كوفي عنان) تنبىء بأن واحدة من اهم محطات مسيرة التسوية السلمية المتعثرة, وربما افضل انجاز لوسطاء السلام الكثر تلوح في الافق. ... فلقد استطاعت جهود وسطاء السلام وبعد مرحلة مخاض صعب وعسير من حمل ودفع اطراف الصراع على التوصل الى نوع من التفاهم المشترك, وبالتالي تقديم شكل من اشكال التنازلات المتبادلة التي تضمن استقرار الاوضاع اولا, ومن ثم الانطلاق الى افق اوسع وارحب يعطي السلام فرصة وان كانت صغيرة لوضع لبنة لحل الصراع العربي الاسرائيلي في اطار يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المغتصبة. ... ان اعطاء الزخم المنتظر للعملية المنتظرة يتوقف في المقام الاولى على تغير القناعات الاسرائيلية, وبالتالي الوصول الى قناعة بان استقرار هذه الهدنة, وما قد يتمخض عنها لن ينسجم باي حال من الاحوال مع استمرار سياسة العنف والبطش الاسرائيلي, لكنه مرتبط بقيام الاطراف التي اعلنتها, وتلك التي سعت اليها, باجراءات ملموسة على الارض, تخفف من الواقع الكئيب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني, والعمل على وضع حد لمظاهر التضييق والاذلال اليومي, الذي يتعرض له من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي في المدن والقرى والمخيمات والمعابر، واطلاق سراح الاسرى والمعتقلين, والافراج عن اموال السلطة الفلسطينية المحتجزة لدى اسرائيل, وتمكينها من القيام بوجباتها تجاه شعبها. ... وخلاصة القول هنا هو ان قيادة المقاومة الفلسطينية قد رمت الكرة في (الملعب الاسرائيلي) فهل سيجيد الاسرائيليون التعامل معها, ام تراهم يتمسكون بمفاهيمهم وتصوراتهم الذهنية التي اثبتت الاحداث ان الطرف الفلسطيني قد اصبح يعيها جيدا؟ سؤال لن ننتظر كثيرا لمعرفة اجابته.