ترجمة عمرو فرحات تعتبر العلاقات بين المسئولين المدنيين والقيادات العسكرية في وزارة الدفاع "البنتاجون" واحدة من محددات إدارة الولاياتالمتحدة للصراعات، والتي تؤثر ليس فقط على نمط الاختيار بين الإستراتيجية الدبلوماسية والسياسية لحل الصراعات أو اللجوء للخيار العسكري، وإنما على نمط وطريقة استخدام الأداة العسكرية ذاتها. ومنذ حرب فيتنام، هناك صدام واضح بين الطرفين لا تزال تمتد مفاعيله حتى اليوم. وكانت الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 أحد أكثر الفصول إثارة وتوتر بين الطرفين نظرا لاختلاف رؤية العسكريين عن المدنيين فيما يختص بكيفية إدارة الحرب وما بعدها. وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن مستقبل هذه العلاقات في ضوء تولي وزير الدفاع الجديد روبرت جيتس سوف يحدد بدرجة كبيرة طبيعة الإستراتيجية الأمريكية بالعراق وإمكانية تحديد جول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من عدمه، كما أن ذلك سوف يكون من أبرز المحددات في طريقة حسم النزاع مع إيران وتوجيه ضربة عسكرية أم لا وطبيعة هذه الضربة. تصدع العلاقات المدنية العسكرية ليس سراً أن العلاقة بين القوات العسكرية الأمريكية والمدنيين خلال إدارة بوش قد تدهورت بشدة منذ بدء حرب العراق. ووفقًا لما جاء في واحد من استطلاعات رأي العسكريين في عام 2006 ، فإن نحو 60 % من الجنود والجنديات العاملين لا يعتقدون أن المدنيين في "البنتاجون" يجعلون مصلحة هؤلاء الجنود في قلب اهتماماتهم، بينما أوصى تقرير لجنة دراسة الأوضاع في العراق بأنه على وزير الدفاع الجديد بذل كل الجهود لبناء علاقات عسكرية مدنية صحية من خلال خلق بيئة يشعر فيها المسئولون العسكريون بأنهم أحرار في تقديم إرشادات ونصائح مستقلة ليس فقط للقيادات المدنية في البنتاجون ولكن أيضاً للرئيس ولمجلس الأمن القومي. لقد كشف مستنقع العراق عن التصدع الذي كان متواجداً لعقود في تلك العلاقات، والذي يعود إلى حرب فيتنام، حيث بدأ العديد من الضباط يعتقدون بأن طاعتهم التي لا يمكن التساؤل بشأنها للقادة المدنيين ساهمت في وجود كارثة، وأن القادة العسكريين لا يجب أن يذعنوا بدرجة كبيرة عندما يبدأ المدنيون في البنتاجون في قيادتهم نحو خطأ إستراتيجي. وتجنب المدنيون والعسكريون لفترة بعد حرب فيتنام المواجهة المباشرة حيث ركز القادة العسكريون على إعادة بناء القوات المسلحة لشن حرب تقليدية مع حلف وارسو، فيما أذعن المسئولون المدنيون إلى حد كبير لما يقوم به العسكريون، ولكن نهاية الحرب الباردة كشفت عن صدع عميق حول ما إذا كان سيتم استخدام القوة المسلحة لحماية الداخل بدلا من شن حروب خارجية، وحول كيفية تكيف المؤسسات العسكرية مع التقاليد الاجتماعية المتغيرة. وبوصول إدارة الرئيس بوش للسلطة، صممت هذه الإدارة على تأكيد سيطرة المدنيين على العسكريين وخاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 ، وتعهد رامسفيلد (وهو ذو خلفية مدنية) ب "تحويل" القوة العسكرية واستخدامها لشن حرب عالمية على الإرهاب. وعندما رأت الإدارة أن القادة العسكريين جبناء بشأن التخطيط لحملة العراق، لم يترددوا في فرض سلطانهم عليهم بشأن عدد الجنود الذين سيتم إرسالهم وتوقيت انتشارهم. وبعد تدهور الوضع في العراق بدأت التوترات تطفو مجددا، حيث طالب الجنرالات المتقاعدون باستقالة رامسفيلد، كما عارض العديد من العسكريين خطة بوش بإرسال عشرات الآلاف الإضافيين من الجنود إلى العراق، في مخالفة لنصيحة العسكريين. وبالمثل هناك تقارير تعبر عن قلق عميق لدى رؤساء الأركان حول خطط الإدارة لاستخدام أسلحة نووية خلال الضربة الاستباقية المحتملة ضد المنشآت النووية الإيرانية، وهدد بعضهم بالاستقالة كوسيلة للاعتراض. أوراق في جعبة "جيتس" ومع ذلك يمتلك وزير الدفاع الجديد العديد من الأوراق في جعبته، ففي الأجل القصير يجب عليه إنهاء لعبة الحرب بعد اعترافه بأن الولاياتالمتحدة "لا تكسب الحرب"، وعليه مواصلة الجهود لإجراء عملية تحديث بالقوات المسلحة الأمريكية وإصلاح القوات البرية "المكسورة"، وبإمكان جيتس أن ينج فقط إذا أعاد بناء علاقات تعاونية بين المدنيين والعسكريين، والتفكير في طريقة إشراف المدنيين على العسكريين لإعادة التوزان في تلك العلاقات. ثورة المدنيين توقع العديد من الخبراء أن تدفع انتخابات بوش في عام 2000 نحو عصر ذهبي جديد من التعاون المدني العسكري. وكان متوقعًا أن تعمل الإدارة التي ضمت وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس "ديك تشيني"، إلى جانب رئيس الأركان السابق "كولن باول"، على تطوير علاقات ممتازة مع القيادات العسكرية. إلا أن بوش دخل البيت الأبيض بأجندة دفاعية طموحة أبقت على الصراع العسكري- المدني، وأكد بوش أنه يعتزم فرض فكر جديد، وخلال الأشهر الأولى بدأ رامسفيلد في إحداث عملية تحول بالجيش في إطار ما ذكر أنه سيكون "ثورة في المجال العسكري". وأدى ذلك إلى وجود خلافات مع القادة العسكريين وحلفائهم في الكونجرس، والذين كانت لهم تحفظات كلية على أسلوب رامسفيلد وجوهر سياساته، لكنه تجاهل تلك الاعتبارات، مشددا على أنه "مدني" وأن الدستور ينص على سيطرة المدنيين على البنتاجون، كما أنه لم يثق حتى في العسكريين المؤيدين لتغييره الثوري الذي يجب أن يتم من قبل المسئولين المدنيين الكبار. وفرضت هجمات 11 سبتمبر 2001 والمراحل الأولى للحرب على الإرهاب في أفغانستان هدنة مؤقتة بين رامسفيلد وكبار العسكريين، إلا أنها انهارت عندما أعلنت إدارة بوش أن العراق هو الجبهة التالية، وهي الرؤية التي لم يقبلها غالبية المسئولين العسكريين. وفي مواجهة تصلبهم، شدد رامسفيلد ونائبه "بول وولفوفيتز" على دورهما بشأن التدخل في بعض القضايا مثل عدد الجنود المطلوبين وطريقة انتشارهم في العراق، وأكبر مثال صارخ لتدخل المدنيين تتعلق بتخطي وولفوفيتز لرئيس الأركان الجنرال "إيريك شينيسكي" الذي أكد الحاجة لنشر مئات آلاف الجنود لتحقيق الاستقرار بعد الحرب. وبعد انتهاء العمليات في العراق بالوقوع في ورطة، عادت الاتهامات المتبادلة بين الجنرالات المتقاعدين والمسئولين المدنيين في الإدارة العلاقات الملتهبة إلى بدايتها، حيث كتب الجنرال "جريجوري نيوبولد" مدير العلميات السابق "أن تلك الحرب أعدها بشكل عرضي أولئك الذين لم يكن مفترضا أبدًا أن يقوموا بها" وانضم جريجوري إلى خمسة جنرالات آخرين مطالبين باستقالة رامسفيلد. وبنهاية عام 2006 اعترف البيت الأبيض والصقور المؤثرين خارج الإدارة بأن واشنطن لم تنشر جنود كافين لتأمين العراق. وحينها بدأ القادة العسكريون في الاعتقاد بأن القوات الأمريكية أصبحت جزءا من المشكلة وليس الحل، وهو ما قاله الجنرال "جون أبي زيد" القائد الحالي للقيادة المركزية والعديد من القيادات الميدانية، بأن زيادة القوات ليس حلا للمشكلة ولن تجلب نجاحًا بالعراق، كما أن العسكريين في البنتاجون واجهوا هيمنة مدنية مجددًا خلال خطة بوش لزيادة القوات الأمريكية في العراق فيما عرف ب "إستراتيجية بوش الجديدة". جنرالات البنتاجون وترجع أسباب النزاع الذي شهدته العلاقات المدنية العسكرية في عهد بوش، كما يشير جيمس مان، في كتابه "صعود البركان"، إلى أن كبار الرموز المدنية في مجلس الأمن القومي اعتقدوا أن إدارة كلينتون فشلت في الإبقاء بشكل محكم على العسكريين، واعتقد رامسفيلد في أهمية الرقابة المدنية على الجيش كمسئولية رئيسية لوزير الدفاع، وأكد وولفوفيتز وكبار المسئولين أهمية إقحام المدنيين للتغلب على المسائل البيروقراطية للعسكريين، وأدركوا أن العقبة الرئيسية لتغيير النظام في العراق من خلال الحرب بقوات بسيطة يمثل العقبة الأساسية للجيش الأمريكي، وهو ما أدى في النهاية لسيادة رؤية وولفوفيتز بشأن عدد القوات لتحقيق المهمة وليس رؤية شينيسكي، مما يؤكد نجاح إدارة بوش في فرض سلطة المدنيين على العسكريين. إعادة التوازن يواجه جيتس حاليًا موقفًا ثنائي الصعوبة يتمثل في أنه بدأ التقدم في إنجاز تحسن في تطوير القوات العسكرية، لكنه أيضا متورط في صراع مع العسكريين. وعليه مناقشة تلك المشكلات في مناخ جيد بين المدنيين وكبار المسئولين العسكريين. ويلخص "توماس وايت" عهد بوش ورامسفيلد بالآتي: "وزراء الدفاع مدنيون وبعضهم قد يكون اكتسب خبرات عسكرية في سنواته الأولى ولكن واجبهم ووظيفتهم هي أخذ النصائح التي يقدمها لهم العسكريون والاهتمام بتلك النصائح في اتخاذ قراراتهم". ويعتقد "وايت" أن جيتس يواجه تحديًا كبيرًا لإعادة بناء التوازن العسكري المدني. ومن المؤكد أن جيتس لا يستطيع بل لا يجب أن يتخلى عن مسئولياته لممارسة السيطرة على العسكريين، ويشجعهم في ذات الوقت -بدلا من عدم الاستماع إليهم أو إخماد أصواتهم- على الإدلاء بالنصائح حتى وإن لم تدعم سياسات الإدارة، فالعسكريون عليهم مهمة الإدلاء بنصائحهم ويجب سماعهم، ويجب على الجنود الذين طلب منهم القيام بمهام غير أخلاقية أن يستقيلوا هم ومن أمرهم بذلك، كما يجب على قيادات الأركان الذين يتم تجاهل آرائهم أن يستقيلوا، لأن استقالاتهم أكثر تأثيرًا على الإدارة فيما يتعلق بتهديدات توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية على سبيل المثال. وأخيرا، فإن التوازن المعقول لابد أن يمنح القادة المدنيين سلطًة في اتخاذ القرارات السياسية حول الفترة التي يجب أن يستمر فيها الوجود العسكري بالعراق وحول استخدام القوة ضد إيران، كما يمنح العسكريون سلطة اتخاذ القرارات العملياتية والتكتيكية حول كيفية إتمام المهمة، حيث أن الفاصل بين المجالين ليس جلي الوضوح. وفي بعض الأحيان تؤثر الاعتبارات العسكرية على القرارات السياسية والعكس بالعكس. لكن تدخل المدنيين في شئون العسكر أمر سيئ تمامًا مثل تدخل العسكريين في السياسة، وبما أن التوازن العسكري- المدني ليس في اتجاهه الصحيح، فإن النتيجة تبقى مزيداً من المعاناة لأمريكا.