تعلن الحكومة الاميركية أنها تتدخل في العراق كمحررة من أجل وضع نهاية لديكتاتورية فرضها صدام حسين على شعبه، ومن أجل إقامة نظام ديموقراطي على غرار ما فعلته أميركا عام 1944 عندما حررت أوروبا من النظام الفاشي الذي كان يمارس الديكتاتورية ويرتكب المجازر. لا يتردد المعلقون المؤيدون للحرب في استعادة مثل هذه الحجة، بل هم يعيبون على من ينتقد السياسة الاميركية إغفالهم انهم مدينون بحريتهم الى الجنود الاميركيين عامي 1944 1945. بعد كل شيء، يسهل على هؤلاء المعلقين تغييب كل ظروف تلك المرحلة وعدم استذكار الا صور المصفحات الاميركية وهي تُستقبل بالترحاب من المواطنين. يغفل هؤلاء ان الحلفاء كانوا يخشون قبل كل شيء على ان تندلع الثورات على غرار ما جرى عليه الوضع بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، وان الحلفاء لم يتوانوا هم ايضا عن ترهيب السكان من خلال القصف العنيف للمدن الاوروبية الكبرى، هذا ولم تكن الديموقراطية هدفا أثيرا للحكومات التي حملوها الى السلطة، وإنما تركزت مهمتها على وقف تمرد الشعوب وفرض متابعة التضحيات من أجل إيقاف الاقتصاد الرأسمالي على سكته. عندما نتذكر الدور المرجح الذي لعبته الولاياتالمتحدة في معسكر الحلفاء تبعا لقدراتها العسكرية والصناعية من أجل إلحاق الهزيمة بالنظام الهتلري فيجب الا ننسى ايضا ان الاميركيين لم يكونوا وحدهم، بل انهم لم يدفعوا الضريبة الأبرز في هذه الحرب، فقبل الانزال الحليف كان الاتحاد السوفياتي يتحمل ثقلها لوحده في أوروبا، واستطاع بمفرده ان يحرر كامل ترابه وان يحرك جيوشه باتجاه أوروبا الشرقية. عشية إنزال حزيران 1944 في النورماندي كانت القوات الالمانية تتركز في الأساس على الجبهة الشرقية، ولئن كان هذا الانزال مجزرة بحق فلأن الحلفاء أرسلوا رجالا أكثر بكثير مما كان يمكن للألمان ان يتحملوا، ولم يكن ذلك ليتناسب مع مدار المعركة على جبهة الشرق. وفي النهاية يجب الا ننسى التفاوت المهول في عدد الضحايا، بين ثلاثمئة ألف قتيل من بين القوات الاميركية في مقابل عشرين مليونا بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي، من مدنيين وعسكريين. أكثر من ذلك، ينبغي الاعتراف أيضا بأن قرار الولاياتالمتحدة دخول الحرب تحت يافطة الدفاع عن الديموقراطية هو قرار أقل ما يقال فيه أنه جاء متأخرا، لانه اتخذ في نهاية 1941 اي بعد الاعتداء الياباني على بيرل هاربور، وبعد عشرين عاما من توطد نظام موسوليني الفاشي، ثم نظام هتلر الذي وصل الى الحكم عام 1933 وفرانكو الذي سحق الشعب الاسباني بمساعدة هذين النظامين. لقد تكيفت الحكومة الاميركية خلال كل هذه السنوات مع هذه الانظمة الديكتاتورية التي حاربت شعوبها والتي حظرت كل الاحزاب غير تلك التي في السلطة، ودمرت المنظمات العمالية. ولم تتطرق الحكومة الاميركية قبلا الى الحديث عن معسكرات التجميع ولا عن الاغتيالات ضد المعارضين ولا عن الارهاب الممارس ضد الشعوب. كذلك لم ينبس القادة الاميركيون ببنت شفة عندما قامت ألمانيا بضم النمسا عام 1938 ومن بعدها تشيكوسلوفاكيا. ولم تكن الديكتاتورية الوحشية التي فرضها هتلر لتُرى في الجانب الاميركي بعين معادية على الدوام، ولم يكن الديبلوماسي جوزف كينيدي (والد الرئيس الراحل) لوحده في إظهار المشاعر المتعاطفة مع الهتلرية. كان ينبغي انتظار اتساع تهديد ألمانيا للمصالح الاميركية وتعرضها للقوى الامبريالية الاخرى واحتلالها لما يكاد يكون كل أوروبا، حتى تتعرف الولاياتالمتحدة على خطر تحاربه، فتطلق العنان بعد ذلك للدفاع عن الديموقراطية. لم يقتصر التدخل الاميركي في الحرب العالمية الثانية على القتال ضد الجيوش الالمانية، إذ سبق التحرير قصف مكثف لا هوادة فيه، وهو ما لا ينسحب فقط على المدن الالمانية مثل هامبورغ وبرلين ودريسدن، وهي مدن لم يكن يوجد فيها في حينه غير المدنيين ممن تساقطوا قتلى بمئات الآلاف. كذلك لم يقتصر الامر في اليابان على إرسال قنبلتين نوويتين ضد بلد مهزوم مستعد للتفاوض، وانما واظبت الجيوش الاميركية على القصف المنهجي لطوكيو وغيرها بالقنابل الحارقة. لقد ارتكبت الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الثانية مجزرة فعلية ضد شعوب لم تكن بأي حال مسؤولة عن جرائم قادتها، وقد جرى ارتكاب هذه المجزرة باسم الديموقراطية والصراع ضد الديكتاتورية، في حين كان يجري في الحقيقة تطبيق سياسة رعب تستهدف المدنيين من أجل تحطيم قدراتهم وتحذيرهم من أي تمرد او مد ثوري على غرار ما حدث في نهاية الحرب العالمية الاولى. لقد أعلنت القوى الثلاث الكبرى الملتئمة في مؤتمر يالطا (الولاياتالمتحدة وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفياتي.. أما فرنسا فلم يكن لها مكان) عن احترام (حق الشعوب في حكومات تكون من اختيارها). الا ان الحلفاء قاموا في كل مكان بوضع أنظمة ضامنة للنظام الامبريالي، او قليلة الاكتراث بالطابع الديموقراطي، ففي إيطاليا مثلا، أُوصل الماريشال بادوغليو الى الحكم بعد سقوط موسوليني، وفي بولونيا فرض الحلفاء ان ينضم الى الحكومة الجديدة أعضاء من حكومة المنفى في لندن، اي نفس الوجوه التي حكمت بولونيا بالديكتاتورية في الثلاثينات. أما في ألمانيا وفي ما وراء محاكمات نوريمبرغ التي أدانت بعض القادة النازيين، فقد جرى إبقاء الكوادر السياسية القديمة في مراكزها. للولايات المتحدة إذاً تجربة معينة في هذا النمط من (التحرير)، انها تريد اليوم ان ينجح مشروعها في العراق في إسقاط نظام صدام حسين واستبداله بحكومة تُسمى (ديموقراطية) عبر توفير كل الضمانات لها. الا ان هذه الحكومة سترتكز على كوادر النظام الحالي وعلى جهاز الدولة إياه. عن جريدة السفير اللبنانية