منذ ان قامت المعارضة العراقية بالتنسيق المباشر مع واشنطن حامت شكوك عديدة حول جدية مواقفها الوطنية واستقلالية قرارها واثارت اجتماعاتها مع الادارة الاميركية نقاشا داخليا فيها اضافة الى النقاش الخارجي الذي يدور في الأوساط القريبة والبعيدة عنها على السواء. وقد اتسم موقف هذه المعارضة من الحرب الحالية على العراق بشيء من الغموض والالتباس. ففي مرحلة التحضيرات التي كانت تقوم بها واشنطن قبل شن الحرب دخلت في مفاوضات مع بعض فصائل المعارضة وعقدت اجتماعات واشنطن الشهيرة التي تقول المعارضة انها اكدت للمسؤولين الاميركيين فيها على عدة مبادئ رئيسية: اولها الحفاظ على ما وصفته باستقلال العراق ووحدته واعطاؤها دورا رئيسيا في مستقبل العراق أي عدم ترك أي فاصلة بين اسقاط نظام الرئيس صدام حسين وتسلم الشعب العراقي زمام اموره بيده كما عبر احمد الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي الذي كان له الدور الاكبر في ترتيب هذه الاجتماعات. وكانت واشنطن كما هو واضح في صدد تشخيص الاتجاهات الرئيسية داخل المجتمع العراقي والمعارضة وفي ضوء ذلك قياس ردود الافعال المحتملة من شن حرب تخطط لها على العراق. وكان من المهم ايضا ان تجد الولاياتالمتحدة خيطا من الشرعية لحربها في اطار اجواء دولية واقليمية رافضة لهذه الحرب. وقد اسهمت اجتماعات المعارضة ومؤتمراتها في لندن وصلاح الدين وكذلك الاجتماعات الفرعية التي كانت تتم برعاية قريبة أو بعيدة من واشنطن في تحقيق هذا الهدف. وتقصدت واشنطن على ما يبدو تشجيع مطامح بعض فصائل المعارضة في مستقبل العراق التي رصدتها لدى المعارضة بهدف دفع هؤلاء الى مستوى افضل من التعاون والتنسيق. ولكن بعد تقدم المساعي الحربية الاميركية واقتراب ساعة الصفر اخذت الولاياتالمتحدة تتنصل من بعض الامور التي تصفها بعض اطراف المعارضة بانها تعهدات او التزامات اخذتها من الادارة الاميركية. وتحولت النبرة من ايجاد نظام ديمقراطي في العراق وبأيد عراقية الى ضرورة فاصلة اميركية لحكومة عسكرية أميركية على ان تسلم الامور فيما بعد الى العراقيين. وقد ثارت ثائرة المعارضة لاسيما تلك التي خاضت مفاوضات مع واشنطن حيث كانت هناك حركات معارضة متنفذة في الوضع العراقي لم توافق منذ البداية على التفاوض مع واشنطن او التنسيق معها. واكتسى خطاب المعارضة بعد هذه التطورات بشيء من التصلب مع الطروحات الاميركية ولكنها فهمت على انها ملاحظات ضغط وتحريك وليست مواقف جادة ضد الولاياتالمتحدة. طبعا فيما عدا المعارضة الكردية المتمثلة في الحزب الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود البارزاني. فقد اتسمت علاقاتهما بالادارة الاميركية بالثبات والاستقرار وكانوا دائما على صلة قريبة جدا من واشنطن وقد توثقت هذه العلاقة اكثر بعد اصرار الولاياتالمتحدة على عدم السماح بدخول قوات تركية لشمال العراق بدون التنسيق معها. ويذكر الزعماء الاكراد هذا الموقف بانه نوع من الوفاء المحمود لتعهداتها لهم. اما المجلس الاعلى وهو الفصيل الاسلامي الوحيد الذي يخوض تجربة التنسيق مع الادارة الاميركية وكذلك احمد الجلبي وباقي الاطراف العلمانية التي كانت تدعو للتنسيق مع واشنطن فقد أغاظها الموقف الاميركي في التنكر لدور المعارضة وشعروا احيانا وكأن رهانهم على وشك ان يخسر على الادارة الاميركية. وبذلك توالت انتقاداتهم الحادة للموقف الاميركي وطالبوا بتغييره بكل ما يملكون من قوة، وحمل كنعان مكية في بعض مقالاته الادارة الاميركية مسؤولة الفشل في كسب ود العراقيين وقال في مقال له مؤخرا ان غموض الموقف الاميركي من المعارضة واستغناءه عنها هو السبب في الصعوبات التي واجهتها القوات الاميركية في العراق. علما بان مكية كان المروج الاساسي لفكرة استقبال العراقيين للقوا ت الاميركية بالزهور والحلوى. وقال هؤلاء انهم نجحوا في ذلك وطمأن الجلبي مؤتمرا للمعارضة عقد الشهر الماضي في طهران بانه قد حصل على تأكيدات من مسؤولين اميركيين بانهم غيروا خطتهم وعادوا الى اعتماد المعارضة بدلا من الحكم العسكري وما الى ذلك. ولكن الحكيم الذي بعث شقيقه عبد العزيز الحكيم الى انقرة للاجتماع بمستشار الرئيس الاميركي في القضية العراقية خليل زاد زالماي وابلاغه قلق المعارضة من النوايا الاميركية لم يطمئن للوعود التي عاد بها شقيقه من زالماي. وقال في لقاء خاص به ان الاميركان لم يتخلوا تماما عن خطتهم السابقة وهم مازالوا يتحدثون عن صيغ غامضة كما قال. ومن هنا اعتبرت تصريحاته المتشددة ضد الحرب بانها تستهدف تطوير الموقف الاميركي اكثر من تناقض حقيقي مع هذا الموقف. ولذا حافظ الحكيم ولايزال على شعرة معاوية مع الادارة الاميركية. ولكن تهديدات وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفلد الاخيرة قوات بدر واعتبارها قوات معادية سبب احراجا اضافيا للمجلس الاعلى ولزعيمه محمد باقر الحكيم الذي شعر بان هناك محاولة مكشوفة لرميه خارج المسرح السياسي لمستقبل العراق خصوصا ان هذه المحاولة تأتي من الاميركان الذين شككوا في مصداقيته كحركة اسلامية وثورية مستقلة حين قام بالتنسيق معهم. وعلى اثر ذلك تصاعدت حدة المنتقدين لسياسته داخل هذه القوات ممادفعه الى تشديد لهجته اكثر ازاء الاميركان في حربهم الحالية على العراق. وافرزت تهديدات رامسفلد واقعا جديدا على الارض فهناك قوة تابعة لفيلق بدر تتواجد منذ فترة على الاراضي العراقية في الشمال ويبدو ان الحكيم اراد من خلالها تحسين وضعه التفاوضي حول مستقبل العراق سواء مع الاميركان او غيرهم. وكانت هناك معارضة من قبل قادة ميدانيين في هذه القوات لقرار ارسالها للعراق لأنها ستكون اسيرة القرارات السياسية هناك حسب وصف احد هؤلاء الذي قال انه لايوجد أي افق سياسي اوعسكري يمكن ان يبرر ارسال مثل هذه القوة الى العراق. وشيئا فشيئا بدأ المجلس يقترب من موقف المعارضة التي ترفض التنسيق مع الاميركان. ويبدو ان هذا المنهج يحظى بدعم عموم الشعب العراقي الذي لا يثق في الاميركان وكذلك المؤسسة الدينية التي تشكل المصدر الرئيسي لشرعية زعامة الحكيم بالاضافة طبعا الى الحركات الاسلامية المعارضة مثل حزب الدعوة الذي يملك نفوذا ملحوظا في المجتمع العراقي وباقي التجمعات الصغيرة التي تريد لاميركا ان تسقط نظام الرئيس صدام حسين ولكن دون الدخول في تفاهمات معها. واتفقت البيانات الصادرة من هذه التجمعات حول الحرب على دعوة الشعب العراقي الى اتخاذ موقف الحياد في هذه الحرب وعدم الوقوف لا الى جانب ما يصفونه بعناصر النظام واجهزته الخاصة التي تتولى الدفاع عنه ولا الى جانب القوات الغازية. ويبدو ان هناك تعليمات مشددة تصدر من هذه الجماعات لانصارها في العراق وهم ليسوا قلة خصوصا في مناطق الجنوب على ضرورة عدم الدخول في هذه المعركة بانتظار ماستسفر عنه من نتائج. ويحدد هذا الجدل نوعا ما الملامح العامة لصورة عراق المستقبل. فحتى لو اسهم موقف العراقيين المعارض للنظام في اتخاذهم الحياد في هذه الحرب فانه سيكون برأي العارفين بالشأن العراقي من الخطأ الاعتقاد باستمرار هذا الوضع في المستقبل خصوصا اذا طالت اقامة القوات الغازية على الارض العراقية. الوطن العمانية