اذكر في اول رحلة لي الى الولاياتالمتحدة انني سئمت سماع الادلة السياحيين وهم يتحدثون عن اكبر مدينة واعلى مبنى واطول جسر واقدم حديقة واضخم شجرة. وتعلمت هناك المثل الامريكي الشهير: (الأكبر هو الأفضل) وذكرني هذا المثل بالمثل الشعبي الشامي القائل: (استكبرها ولو كانت مرة). وبدا لي اننا جميعا مرضى بداء حب العظمة الذي يظهر بأشكال عدة احدها حبنا للتفاخر بان ما نملكه او نرتبط به او نعرفه او رأيناه هو الأفظع والأفضل. فمن يملك القدرة المادية يسارع الى اظهارها من خلال عمل ما يقال عنه انه الاعظم او الاكبر. أما من لايملك القدرة فلا يتوانى عن ان يعلن للجميع انه رأى هذا الأعظم أو زار ذلك الأكبر. من هذا المنطلق يتفاخر سكان المدن الكبرى بمدنهم لكبرها وعظمتها. ولا يستطيع احد ان ينكر ان تلك المدن ذات المباني والخدمات والطرقات والجسور والحدائق والمتاحف مدعاة حقيقية للفخر والاعتزاز. ولكن الأمر الاهم هو الى أي مدى يمكن للمدينة ان تكبر وتنمو وتبقى مصدرا للفخر. الجواب البسيط لهذا السؤال هو ان المدينة قادرة على الاستمرار في النمو على نحو مقبول طالما تستطيع ان تكون مكانا جيدا لحياة حضرية تقدم فرصا حقيقية للعمل والسكن والثقافة والخدمات والترويح من دون ان تقضي على البيئة الطبيعية التي تستضيفها. وهكذا يمكن القول انه عندما تظهر بوادر العجز في أي منحى من المناحي المذكورة هنا، تبدأ المدينة في السير على طريق الفشل. تكون الفرصة حقيقية للعمل مثلا عندما تتحقق مجموعة شروط اساسية منها: أولا: ان يكون العمل متوافقا مع امكانيات العامل فلا يمكن اعتبار عمل المهندس سائقا لسيارة اجرة فرصة حقيقية للعمل. ثانيا:؛ ان يكون الاجر مناسبا للجهد الذي يبذله العامل. ثالثا: ان يكون الاجر كافيا لتأمين حياة كريمة للعامل وعائلته بحيث يستطيعون التمتع بما تقدمه المدينة من خدمات وفرص للترفيه. اما السكن فيتوقع ان يكون مقبول التكلفة، وان يكون مناسبا من حيث مواصفاته الانشائية والصحية والاجتماعية، وان يكون قريبا من الخدمات الضرورية كالسوق والمدرسة ومكان العمل والى غير ذلك من امور حيوية واساسية. وما يقال عن العمل والسكن يقال ايضا عن الثقافة والخدمات والترويح. لكي تستطيع اية مدينة ان تقدم كل هذه التسهيلات والخدمات لابد ان تكون ذات حجم كبير، ومن هنا تكون المدينة مدعاة للفخر. اذ من المنطقي ان يفترض انه كلما كبرت المدينة ازدادت الخدمات وفرص العمل فيها وبالتالي ازداد بريق المدينة وجاذبيتها. ولكن تبدأ مشكلة المدينة في الظهور عندما تعجز عن تأمين الفرص الحقيقية للخدمات المتوقعة منها. فمثلا تصبح الخدمات اقل توافرا او اكثر كلفة او اقل تنوعا. عندها يعجز بعض سكان المدينة عن التمتع بهذه الخدمات فلا يمكن اعتبارهم من سكان المدينة بشكل فعلي، لأن الشرط الأساسي لسكن المدينة هو ببساطة ان يستطيع الساكن ان يتمتع بالخدمات التي تقدمها. بسبب نقص الخدمات تظهر مشكلة الغلاء فتصبح الحياة في المدينة متعذرة. المثال الاكثر انتشارا لهذه المشكلة في مدننا، بل ومدن العالم اجمع، هو غلاء اجور السكن الذي يؤدي في كثير من الاحيان الى اضطرار عدد كبير من السكان الى القيام بما يمكن تسميته نصف هجرة داخلية من المدينة الى القرى المجاورة. تعني الهجرة النصفية ان العائلة تسكن خارج نطاق المدينة حيث يمكنها دفع اجرة السكن، ولكن افرادها يعودون كل يوم للمدينة للعمل او الدراسة او التسلية. فتزداد اعداد السكان في القرى المتاخمة للمدينة بشكل كبير بسبب المنتقلين اليها من داخل المدينة او من القرى البعيدة عنها. ترهق هذه الاعداد الضخمة من السكان الجدد تلك القرى كما ترهق المدينة في آن معا. فعلى سبيل المثال من اهم المشكلات التي ترهق المدينة وقراها المحيطة بسبب نصف الهجرة الداخلية نقص الخدمات الكافية للاعداد المتزايدة من السكان، وهكذا تقع المدينة ضمن دائرة مغلقة من المشكلات تبدأ بنقص الخدمات ثم الهجرة نصف الداخلية الى القرى المجاورة فارهاق الخدمات الخاصة بتلك القرى فنقصها مرة اخرى. تظهر قضية المواصلات في المدينة كواحدة من هذه الخدمات الضرورية التي غالبا ما تعاني نقصا وتراجعا شديدين. فتتفاقم المشكلة اكثر اذ يضيع وقت طويل على الطرقات التي تزدحم بشكل خانق، ويزداد التلوث البيئي والصوتي والبصري، وتزداد فرص الحوادث. الى جانب ذلك ايضا تعاني المدينة الكبيرة والمكتظة بالسكان بسبب نقص الخدمات وقلة فرص العمل مشكلات امنية واجتماعية فتظهر السرقات والجرائم والانحرافات الأخلاقية. ومما يزيد من حدة هذه المشكلات ان الاعداد الكبيرة من الوافدين الى المدينة يجعلونها تتصف بالغربة. فلا احد يعرف جاره والناس يعيشون فرادى بعيدين عن بعضهم البعض. بالتالي يفقد سكان المدن الكبيرة الشعور بالانتماء فلا يعنيهم شأن مدينتهم او مشكلاتها. تبدو الصورة قائمة وقميئة، ولكنها حقيقية!ّ فالمتفحص الواعي للمدن الكبرى يجد بجانب جمال وزينة شوارعها ومحالها الرئيسة صورة اخرى تدعو للقلق الشديد. ولكن المطمئن في الامر ان حلولا لهذه المشكلات قد تم الوصول اليها بعد دراسات وبحوث مطولة. ولا يزال العمل على ايجاد حلول افضل مستمرا بما يضمن نتائج تناسب كل مدينة على حدة. فمعاهد البحوث والجامعات والادارات الحكومية تسعى جاهدة لتطوير المدن بالاتجاه الصحيح والصحي. وكنقطة مبدئية تظهر فكرة تحديد حجم المدينة كأساس متفق عليه لحل مشكلات المدن. اذ بتحديد حجم المدينة يمكن توقع احتياجاتها بصورة ادق وبالتالي يمكن التخطيط لتأمين هذه الاحتياجات بشكل علمي ومنطقي. من هذا المنطلق تتبلور ثلاثة مناح للعمل في هذا الخصوص يتعلق الاول بالناحية التنظيمية والثاني بالتخطيط الاقليمي والثالث بالتخطيط الحضري. اما الناحية التنظيمية فتتمثل في نقاط نذكر منها اثنتين هنا: الأولى ان يكون التخطيط لمستقبل المدينة على المدى الطويل وليس لفترات قصيرة. فلا يكفي التخطيط لخمس او عشر او عشرين سنة. وانما يجب التخطيط لمئة سنة على الاقل مع العلم ان التخطيط الذي يتم في الغرب يمتد لمئات السنين. والنقطة الثانية تظهر كنتيجة للأولى وهي انه يجب الاعتماد في عملية التخطيط على اخصائيين متمرسين من سياسيين واقتصاديين ورجال اعمال ومخططين ومعماري بيئة. اذ لا يمكن الاعتماد على قرارات فردية قاصرة مهما كانت صالحة للقيام بعمليات تخطيط على مقياس هائل كما هو الحال هنا. اما التخطيط الاقليمي فعادة ما يرتكز وفقا لاقوال الخبراء على نقطتين ايضا: الاولى تخفيف الهجرة الداخلية من القرى الى المدن وبالتالي يقل حجم المشكلة. اذ تقتصر زيادة سكان المدينة في هذه الحالة على النمو السكاني الطبيعي لأهلها، الأمر الذي يمكن دراسته وتأمين مستلزماته بشكل ادق. وبالتالي تكون النقطة الثانية هي في ايجاد آلية تساعد على تخفيف هذه الهجرة. وقد اجمع المختصون على مدى العصور ان افضل طريقة لذلك تكمن في تأمين مراكز حضرية بديلة تستوعب الزيادة السكانية بعيدا عن المدن القديمة يجب ان تتوافر ثلاثة امور في هذه المراكز الجديدة: ان تكون موزعة بشكل مدروس بحيث تغطي الاحتياجات السكانية للدولة بالكامل، وان تنشأ في اماكن قادرة على تأمين احتياجات المدينة الحيوية كالماء والغذاء والكهرباء، وان تقدم الخدمات المتوقعة منها لسكانها الجدد. واخيرا على صعيد المدينة نفسها، هناك كذلك نقطتان تجب مراعاتهما: الأولى تقسيم المدينة الكبيرة الى وحدات ادارية تتمتع باستقلالية واسعة بحيث يمكن رؤية هذه الوحدات وكأنها مدن مستقلة ولكنها متجاورة. تسهل هذه الفكرة ادارة المدينة ككل اذ تقدم كل واحدة الخدمات اللازمة لمنطقتها الجغرافية مع التنسيق بينها وبين الوحدات الاخرى. يتبع هذه السياسة النقطة الثانية والمتمثلة في توزيع الخدمات على اقسام المدينة كلها وفقا لتقسيمها الاداري. سيعني ذلك وصول الخدمات لكل مناطق المدينة بعيدا عن المركز مما يؤدي الى تحرره من كثير من الاعباء ليصبح مركزا حضاريا حقيقيا. مستقبل المدينة والمرتبط بحجمها بشكل رئيس امر في غاية الحساسية والاهمية لما للمدينة من تأثير على حياة سكانها وزوارها. لذلك يفترض من المخططين الحذقين ان يكونوا واعين ومنتبهين الى خطورة دورهم في تشكيل وصنع وتوجيه مستقبل المدن، وبالتالي يفترض ان يستند منطقهم على فكرة تأمين وتحسين وتطوير المدينة وليس على فكرة (كبر المدينة ولو صارت مرة). استاذ مشارك قسم عمارة البيئة كلية العمارة والتخطيط، جامعة الملك فيصل التمدد العمراني له مخاطره