في كل مرة أصل إلى المقهى، أجده جالسا وحبل الشيشة يتدلى من شفتيه بينما يحتجب وجهه للحظات خلف الدخان المتصاعد من فمه. وجه طفولي غارق في البراءة، نادرا ما يغلق نافذة ابتسامته، يوزع نكاته على نزلاء المقهى، ويتلقى سخريتهم منه بضحكة قصيرة يتورد لها خده المحمر، وعيناه الصغيرتان تتسعان حين يكون النكات على سواه. يظل مكانه شاغرا لا يقتعد مقعده أحد واذا جاء جلس في ركنه المعتاد وما أن يصل حتى يسارع النادل بالاستجابة لصفقاته المتتابعة وهو يصيح: العادة يا قهوجي فيركض باتجاهه واضعا أمامه براد الشاي الثقيل وتعميرة الجراك وينصرف من بين يديه بعد أن يستمع لآخر نكاته، ليبدأ جلسته بالترحيب بكل من حوله ويتناثر حديثه ليشمل كل المحيطين به، وفي أحيان كثيرة تجده يتحدث مع شخص يبعد عنه مسافة كبيرة واذا لم يسمعه صاح بمن حوله: يا ناس خلونا نسمع كلام الرجل. وكل من يحدثه يعقد معه صداقة محاولا توثيقها بالصياح على القهوجي: يا واد.. حساب طلبات الأخ عندي كانت شكواه الوحيدة أنه يتيبس داخل البيت طوال النهار دون أن يعوده أحد ودائما يردد: علينا أن نجهز علاقة حتى إذا سقطنا وجدنا من يرفع أجسادنا عاليا.. لا يعرف نزلاء المقهى لكنه يفتح وجوههم بكلماته العذبة، فيتواصلون معه لبعض الوقت ويغادرون المكان كما جاءوا، لينتظر وجوها أخرى يفاتحها بعذوبته. مضت هذه الليلة دون أن نراه.. كنا نشعر بأن المقهى أظلم فجأة، ومن هناك ظل مكانه ينز بنور خافت لثلاث ليال، وفي الليلة الرابعة تبرع نادل المقهى بوضع لافتة صغيرة على كرسيه كانت تقرأ بصعوبة: انتقل الى رحمة الله السيد عبدالله عبدالرحمن قبل ثلاث ليال ودفن في مقبرة أمنا حواء "إنا لله وانا إليه رجعوان"