المبدع حالة وليس انسانا فقط.. هو لايستطيع ان يكتشف كل جوانب ابداعه في وقت واحد, فلا غرابة اذن ان يكتشف في كل مرحلة من حياته جانبا جديدا, وجد له فرصة متاحة, سواء من الوقت ام من لفت الآخرين نظره الى ذلك الوجه الجديد من الهرم. الاستاذ خليل الفزيع قاص مبدع, قدم عددا من المجموعات القصصية منذ وقت مبكر, وكانت كل مجموعة تمثل مرحلة من مراحل حياته الاجتماعية والادبية, وربما زعمت الفكرية كذلك.. ثم صرفته الصحافة شيئا ما عن الابداع, ولكنها لم تستول عليه تماما, ولاشك ان الهم الصحفي اليومي, والالتزام بمقالة يومية امر مرهق للغاية, لاسيما لمن عشق التميز والنجاح, ولا يرضى لنفسه سوى مستوى يليق باسمه الناصع في عيون الادب والثقافة. لقد كتب الاستاذ الفزيع منذ بداياته في عدد من المجالات, ومن ابرزها النقد الاجتماعي في مقالاته المتتابعة, وفي النقد الادبي في كتابه احاديث في الادب والنقد, وفي القصة معشوقته الاولى والاخيرة, ولكن.. لاشك ان مضمار الشعر هو الذي فاجأ به الفزيع القارئ حقا, لانه لم يكن كعدد كبير من الادباء والمفكرين , الذين لا يخلو نتاجهم من قصيدة او قصيدتين ولا يعدون في زمرة الشعراء, ولكن المفاجأة هي صدور ديوان كامل يحمل اكثر من ثلاثين قصيدة رقصها على الايقاعين التفعيلي, والعمودي, وصب فيها بوحه الذاتي, اكثر من التعبير الجمعي, ورسم فيها علاقته مع الله, وعلاقته مع ملهمته, وعلاقته مع اصدقائه, الى جانب التعبير عن عدد من التجارب ذات الابعاد المختلفة. وليس لمقالة مثل هذه ان تحكم على عمل ابداعي كامل, بهذا الحجم , ولكنها التفاتة نقدية هامة, ربما تشجع قارئا على استنطاق النصوص, وبعثرتها , ثم بنائها من جديد على اساس نفسي ذاتي, مما يجعل لهذه النصوص قوة على التعبير الشفيف عن تجارب الآخرين المماثلة, بل يجعلها قادرة على الصمود امام قراءات متعددة ومختلفة. لايوجد شاعر ديوانه كله في مستوى واحد من الجودة, ومن قرأ المتنبي بتجرد أقر بما قلت, وكذلك كان الفزيع/ الشاعر.. لكنه سيجد انفاس الفزيع.. وتنهداته.. وتفاؤله.. وغدوته.. واوبته.. وغضبته.. وسماحته.. كل ذلك سيراه بصدق.. وذلك كما يقول العقاد عن سيماء الشاعر.. حينما يكون الشعر مرآة حياته هو وليس حياة غيره. ولكن السمة التي لا ينبغي ان تنسى في أي عمل نقدي سوف يحتفي بالشعر في ابداعات الفزيع هي انه قاص في الدرجة الاولى, وانه لم يستطع ان يتقمص شخصية الشاعر وحده في ديوانه.. بل كان ايضا قاصا.. وليس ذلك عيبا.. بل هي سمة من سمات الاصالة, التي تعني فيما تعنيه ذاتية الاديب, التي تجعل منه انسانا عاما, اعني ان ادبه يحمل سيماءه, ويمتح من تجاربه اكثر من ثقافته, ولكنه لا يظل حبيس نفسه وذاته, بل ينطلق من الخصوصيات الى العموميات, ومن التجربة الشديدة الخصوصية الى قضية عامة بحنكة وقدرة فائقة على الانتقال المقنع للقارئ, بل دون ان يشعر, وذلك نتيجة محبرة درامية طويلة الامد تمرس عليها القاص/ الشاعر: بالامس قادتني خطاي نحو تلك المقبرة شاهدت حارسين (راحا يسألان) ماذا تريد؟ اجبت : ها هنا تركت قلبي الجريح اتعرف المكان؟ (عادا يسألان) نعم (أجبت) لدي هاجس يدلني عليه هل هذا شعر أم قصة أم مسرحية؟ ان الشعر منه قصصي ومنه مسرحي.. ويسميهما النقاد شعرا موضوعيا, ولكن شعر الفزيع مع انه خليط من كل هذه الالوان الابداعية الا انه يبقى شعرا غنائيا, وبوحا ذاتيا.. للاسف .. لم يبق من مساحة لنعرف.. ماذا اراد المعنى ان يقول.. فلنرجيء الحديث الى ان يصدر ديوانه الثاني الذي دفعه للطبع للتو.