تحرّر العديد من النصوص الإبداعية الحديثة من ترسّم خطى التصنيفات القديمة المحفوظة، معتمدة على فكرة “اللعب الحر” بتسلق الأسوار وهدم الجُدر الفاصلة بين الشعر والقصة والرواية والمقالة والخاطرة، وما إلى ذلك من الأجناس الإبداعية التي كانت تحفظ المسافة بينها بشروط واضحة تحيل كل “نص” إلى جنسه الإبداعي دون مشقة. ليجد هذا النص “المزاوج” فرصته مقدمًا شكلًا “يحرج” النقّاد في معرض نسبته إلى نوع من الكتابة بعينه، ولعل “قصيدة النثر” الأقرب مثالًا لهذه المزاوجة، وتحطيم الجدر.. وبقدر ما أتاح هذا التزواج من قدرة على التعبير دون مثاقيل الشروط والمحدّدات، إلا إنه في المقابل أفقد النص “نقاءه” -بتعبير الدكتور حسين المناصرة- ولما للنقّاد من قدرة على استدعاء أدواته القديمة، التي تعتمد أولًا على تصنيف النص وتجنيسه ثم الشروع في نقده.. ولا يقتصر الأمر على “المزاوجة” داخل النص الواحد، بل ثمة مبدعون ينتقلون بين الأجناس الأدبية، في معرض التجريب، ولم يعد المبدع قانعًا بتوصيفه شاعرًا أو روائيًّا أو قاصًّا، وليقحم قلمه في كل هذه المجالات وغيرها، وهو أمر محمود إن كان ثمة “موهبة” تدعم ذلك، لكن ثمة من يرى في مثل “التنقّل” مضيعة لما عرف به المبدع، وتشتيت لقدراته.. جملة الآراء حول “المزاوجة” بين الأجناس الأدبية، و”الانتقال” بين ساحاتها في سياق هذا التحقيق.. نقاء معدوم استهلالًا يقول القاص الدكتور حسين المناصرة عضو قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود وعضو تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين: منذ ثلاثة عقود على الأقل دخل الشعر مساحة النص القصير جدًّا، أولًا من خلال قصيدة النثر. والمسافة هنا قصيرة جدًّا، إن لم تكن معدومة، بين القصة القصيرة جدًّا وقصيدة النثر، بحيث يمكن القول: إن الفرق بينهما لا يتجاوز التسمية. وثانيًا هناك قصائد تفعيلة وعمودية لا تتجاوز بضع كلمات، وهذا يعني أننا قد نجد قصائد لا تزيد على بيت أو بيتين أو ثلاثة، مما يعني أنّ الكتابة الإبداعية القصيرة جدًّا موجودة في كل الأجناس الأدبية، بما في ذلك الرواية القصيرة جدًّا. ويضيف المناصرة: أما عن مزاوجة الأدب لبعضه فهناك نصوص كثيرة يحار الناقد في تصنيفها، سواء أكانت في الشعر أم القصة أم الرواية أم غيرها. يوجد اليوم في الكتابة تداخل عجيب بين الأجناس الأدبية.. لم يعد هناك أي نقاء في الأنواع الأدبية، كما كانت على الطريقة الأرسطية. وأحيانًا نجد توصيفًا سهلًا لكتابة ما، فنقول عنها: إنها “نص”، مما يدل على أنّ هذا النص فيه شعر، وسرد، ودراما، وتشكيل، وخاطرة، وحكاية، وغير ذلك مما يخطر على البال أو لا يخطر. وأرى أنه لا يعيب الكاتب أن يكون متعدد الكتابة في الأجناس الإبداعية، لكن هذا التعدد لابدّ أن يكون على حساب التخصص في مجال إبداعي معين، ومن ثمّ يمكن أن يشكّل هذا التخصص تجربة إبداعيّة تراكميّة متكاملة، بحيث يبقى الشاعر شاعرًا، والروائيّ روائيًّا، والمسرحيّ مسرحيًّا.. لكن الظرف الإبداعي أحيانًا هو الذي يشكّل جنس الكتابة، فقد يبدأ القاص بكتابة قصّته، ثمّ يجدها تتحوّل -رغم أنفه- إلى رواية أو مسرحية أو قصيدة؛ حينئذ لا يملك الكاتب قوّة ردع، ليحجر على الكتابة في أيّ شكل من الأشكال، فيمنعها من الظهور أو الولادة بطريقتها الخاصة، عندما تكتب الكتابة كاتبها. لهذا أرى أنه من الطبيعي أن يتحوّل القاص في مرحلة إبداعيّة متقدّمة من قاص إلى روائي؛ وذلك عندما تغدو القصة القصيرة غير قادرة على أن تعبّر عن تجربته الممتدة، فيكون من الطبيعي حينئذٍ أن تولد الرواية أو بالأحرى الرواية السيرية!! ويمضي المناصرة في حديثه مضيفًا: في وقتنا الحالي يعد النص الإشكالي أو المتعدد الأجناس هو النص الأكثر جمالًا، ومن هنا تعد المسألة نسبية، فتجد شاعرًا له عشرة دواوين في مستوى أقل من شاعر لديه ديوان واحد.. لكن عمومًا إذا لم يكرّر الكاتب نفسه في جنس أدبي، وحرص على تنوّع تجربته الشعريّة، أو تجربته القصصيّة، أو تجربته الروائيّة، أو غيرها، فإنّه آنذاك يكون أفضل من كاتب كتب رواية وقصّة وقصيدة ومسرحيّة، وكأنّه صاحب “سبع صنايع والبخت ضايع”!! ويختم المناصرة بقوله: أمّا استحضار الكاتب للجمهور؛ فالكاتب الجيد لا تهمّه مسألة الجمهور. وأحيانًا يكون الجمهور العريض للكتابة ضد جماليّة الكتابة، وقد تلعب عوامل كثيرة في إيجاد جمهور للكتابة، هي عوامل خارجة عن سياق الفن وجمالياته على الأغلب، كما لاحظنا في جمهور رواية “بنات الرياض”، أو رواية “الحزام”.. بدون أن أقلّل من أهمية الروايتين من الناحية الفنّية!! طبعًا كلّ كاتب يطمح إلى أن يكون مقروءًا، لكن بعض الكُتّاب يفضّلون أن يلعبوها على طريقة “نجوم السينما”، وتساعدهم في ذلك عوامل إعلاميّة، وربما تلعب المصادفة دورها!! اختيار حر الدكتور عبدالله حامد عضو مجلس إدارة نادي أبها الأدبي الثقافي ورئيس قسم اللغة العربية في كلية المعلمين يرى أنّه: لا يمكن البت تحديدًا بإجابة عامة، فلكل حالة أدبية دوافعها، وحظها من الحضور والتميز. مستدركًا بقوله: إلا أنه وفي كل الأحيان تظل هناك مساحة كبيرة من التجاوز في هذا الميدان، فالإبداع لا يمكن أن نجبره على التخصص في جنس واحد، إذ يبقى ذلك اختيارا حرًّا للمبدع أن يكتب ما شاء، كيف شاء، ثم سيكون الحكم على منتجه في مستقبل الأيام على أنه من الطبيعي جدًّا أن يكون هناك تعاطٍ طبيعيّ، وإيجابيّ بين بعض الأجناس الأدبية، فشاعر يكتب سيرته الذاتية عبر عمل سيري نثري، وقاص يسجّل رحلته إلى بلد ما عبر استثمار أدب الرحلة، غير أن هناك من التعاطي ما يمكن أن نتوقف عنده، وبخاصة حين يريد مبدع ما التنصل من مسؤولية “الصدق والمكاشفة” فيلبس سيرته الذاتية مثلًا رداء الرواية؛ ليستفيد من وثائقية التجربة من جهة، ويتنصل عبر تخييلي الرواية من سؤال الصدق، الذي قد يكون تجاوزه، بل وأساء إليه عبر زعم الاتكاء على خيالية الرواية، وهو لا يريد أن يهرب من ضعف فني، أو مساءلة مجتمعية، بقدر ما يريد أن يصور “لذاته” بطولة كاذبة، وهي حالة من الأنانية والنرجسية، تريد أن تفيد من الجنسين الأدبيين؛ السيرة الذاتية والرواية، حيث تعطيها السيرة الذاتية البطولة الكاذبة، وتدفع عنها الرواية سؤال الصدق الذي تتحراه السير الصادقة! والأمثلة في ساحتنا حاضرة. ستبقى هناك حالات موهوبة صادقة مع فنها، تكتب في أكثر من جنس أدبي، وتنجز هنا، وتبدع هناك! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهناك أيضًا نماذج تجرّب ولمّا تجد نفسها حتى الآن، وذاك حقّ مشروع لها، ونماذج أخرى -عفا الله عنها- لم تترك ظهرًا، ولم تقطع أرضًا. ويضيف الحامد: أما خلق بعض الأجناس الأدبية من رحم بعض فذلك أمر متوقع، وخروج (ق ق ج) لم يكن من رحم القصة فقط، بل هو حالة من حالات التكثيف الفني، الذي بلغ مداه في التوقيعات القديمة مثلًا، وهو يحضر اليوم بطاقة جديدة خلابة، قادرة على الحضور والتأثير، ومستجيبة لحالة العصر الذي عمد إلى الاختصار، والتكثيف، في كثير من الحالات الحضارية، وهو الأمر ذاته الذي يمكن أن يقال عن قصيدة “التفعيلة” الفتاة الجميلة للقصيدة الخليلية. أدب الاضطراب الشاعر محمّد الجلواح لا يرى إمكانية الانتقال بين الأجناس الأدبية عند الشعراء على وجه التحديد مجوّزًا ذلك للسرديين ويبرز ذلك في سياق قوله: انتقال الجنس الأدبي من جنس إلى آخر كتفرع القصة القصيرة جدًّا من القصة القصيرة لا يحدث مثل هذا النوع عند الشعراء، فلو أخذنا غازي القصيبي سنجد حالة استثنائية، أو خليل الفزيع فهو حالة استثنائية أيضًا كونهما بعد كتابة السرد بشكل عام انتقلا إلى الشعر؛ ولكن في العموم لا يحدث مثل هذا الشيء عند أغلب الشعراء. ويضيف الجلواح: مثل هذه تحدث عند كُتّاب السرد، والذين لا أريد أن أقول إنهم يتلوّنون؛ بل ينتقلون من لون إلى آخر والمسوغات في ذلك كثيرة منها: إما لطلب التغيير أو يحس أنه يريد أن يطرق بابًا طرقه سواه فيريد أن يجرّب نفسه أو أنه لم يكن مقتنعًا في ما كتبه فيدخل في تجربة أخرى ليقنع نفسه، هذا الأمر بشكل عام قد يحدث اضطرابًا لدى المتلقي فلا يستطيع أن يكوّن رأيًا أو خطًّا أو فكرًا معيّنًا لمثل هذا اللون من الإبداع والكتابة، فالشعر له حالة خاصة معروفة حتى ولو تغيّرت الأبحر وتغيرت الأوزان، ويجب على الإنسان أن يتصالح مع نفسه ويكتب خطًّا واحدًا يعرف به ويترك بصمة في مجال الإبداع وفي مجال الأدب، فغازي القصيبي كتب ما عنده من رصيد يكفيه -رغم استثنائية الحالة- وبالتالي لن يستطيع أن يقدّم أكثر ممّا قدّم، قرأنا رواياته فعدّ من ضمن الروائيين؛ لكنه عدّ شاعرًا في الأساس فهو شاعر، والكثير من النقّاد ينسبه إلى تيار الشعر الكلاسيكي. ويتابع الجلواح مضيفًا: وحسب وجهة نظري الشخصية أرى أن الإبداع الأدبي نوعان؛ إما أن يكون شعرًا أو نثرًا، ولا يمكن أن ينتج لنا تماهي الأجناس الأدبية بشكل عام نوعًا جديدًا من الأدب، وأرجّح أن يكون مثل هذا التلوّن الأدبي ناتجًا عن الاضطراب (النفسي والاقتصادي والعملي والفكري) الذي يعيشه الأديب في هذا العصر، ونحن نعيش في قلق هذه الفضاءات المفتوحة، والتنوّعات تركت فينا خللًا انعكس علينا بشكل عام وعلى ثقافتنا، ولذلك أصبح بعض كُتّابنا وأدبائنا ومبدعينا -ونتاجًا لذلك الاضطراب- ينتجون نوعًا من الأدب الذي لا يمكن وصفه بالأدب المفهوم سواء كان شعرًا أو قصّة، وقد يطول الحديث في هذا الموضوع، وليس بالضرورة -وحسبما يعتقد البعض- أن يكون الانفتاح مضيئًا؛ لأنه قد يكون أيضًا مظلمًا لنا لأنّ تكويننا الأدبي غير ذلك، فالأذن العربية التي فطرنا عليها لا تتقبل المنتج الدخيل علينا من الآخر وتستطيبه، كما هو الحال في موروثنا الأدبي القديم برغم أن موضوع الترجمة هو موضوع آخر. تعدد غير مقبول الدكتور سلطان القحطاني نبّه إلى ضرورة التفريق بين خلط الأجناس الأدبية وتعدد مواهب الكُتّاب في فاتحة قوله: لا ينبغي أن نخلط جميع الأجناس الأدبية ببعضها البعض ولنقل أن الأدباء يختلفون، فهناك من لديه تعددًا في المواهب لكي يشغل أكثر من جنس أدبي مع العلم أنّه في هذا الزمن غير مقبول هذا الجانب، ولكن لا يمكن أن يبرز أو ينبغ في كل هذه الفروع من الفن، فهناك من يكتب الرواية والقصة القصيرة والشعر وما إلى ذلك، ولكن لا يمكن أن يعرف إلا في إحداها؛ أي بمعنى لا يمكن أن يعرف الأديب إلا روائيًّا أو قاصًّا أو شاعرًا، أمّا البقية فتكون على الهامش. وتقويم كل ما يكتبه الأديب يأتي عن طريق النقد الأدبي الحقيقي فقط، وليس كما تعج به الساحة الأدبية الآن بأن كلّ من لديه قلمًا أصبح ناقدًا، إضافة إلى تأثر الناقد بالحالة المزاجية في خلال تقييمه للعمل الأدبي الذي بين يديه، فضلًا عن افتقاده للأسس الصحيحة للنقد. ويتابع القحطاني حديثه بقوله: ولكن إن تساءلنا عن ذلك الحراك الأدبي هل سيكون في صالح الأدب أو ليس من صالحه فلا أراه في صالحه البتة، ففي الزمن الذي كانت فيه القصة القصيرة هي الجنس الأدبي الأبرز نجد أن الناس كلهم أصبحوا كُتّاب قصّة قصيرة، ثمّ جاءت الرواية وبرزت ووجدنا أنّ الكلّ حاول أن يصبح روائيًّا، لنفاجأ كل يوم بأن هناك رواية أو ما يسمّى برواية تفتقد إلى أبسط مقوّمات الرواية الحقيقية التي تقدّم الأطروحات والرموز والآراء؛ فهي لا تعدو كونها خواطر أو مذكّرات، فنجد بعضهم يكتب عن شريحة معينة، أو يتناول موضوعًا معيّنًا، ولذلك أنا لا أعدّها رواية، ويمكن تصنيفها كقصة قصيرة أو مسرحية أو قصيدة، فالرواية -حسبما أرى- أنّها هم جمعي واسع جدًّا، عالم يستوعب كلّ شيء، لابد أن يطرح فيه كلّ شيء.. نعم هناك شخصيّة محوريّة تدور حولها الأحداث، هناك بناء، هناك عقدة؛ لكن ما أراه الآن هي قصص طويلة تسمى رواية لغرض التسويق، ولم تعدُ المسألة كونها موضة، كل هذا الكم من الروايات يمكن أن يثري الحراك الأدبي؛ ولكنه لا يمكن أن يثري الفن السردي، ولا يطول عمرها. بعثرة الخطاب الجمالي ويرى الناقد محمّد العبّاس أنه ليس ثمة حوائط تعزل الأجناس الأدبية عن بعضها البعض، قائلًا: أعتقد أن الفنون والأجناس الأدبيّة بشكل عام تعيش حالة من التكامل أكبر مما هي في حالة من التصارع، ولا توجد تلك الجدران العالية التي تفرز ما بين جنس أو لون إبداعي ولون آخر إلا من الناحية الإجرائيّة؛ فجميع الفنون والأجناس الأدبية تتداخل مع بعضها البعض، فنجد مثلًا شعريّة السرد أو الشعريّة البصريّة، كذلك الشعر يدخل في المسرح، فنجد الشعر الممسرح، ونجد السرد يأخذ الصبغة الشعريّة، وهكذا فالنّص المفتوح الذي يحتمل استجلاب مجموعة من تقنيات الألوان الإبداعيّة الأخرى يمكن أن يحقّق ديناميّة في الرؤيا وبعض اللمسات التي تضفي على النص جماليّة عليا. ويستدرك العبّاس قائلًا: ولكن عندما يتعمّد المبدع أن ينزاح عن لون إبداعي نحو لون إبداعي آخر بدعوى التجريب أو من منطلق الاستعراض فإنه يفقد خصائص لونه الإبداعي الأول وممكناته، ولا يقدر على اللحاق أو الاستجابة إلى اللون الذي انتقل إليه، فالمسألة تحتاج إلى شيء من التأني والوعي لممكنات كل لون إبداعي على حدة، وفي اللحظة المعاصرة والآنية التي نعيشها لا يوجد جنس إبداعي محض، فنجد على سبيل المثال أن الشعر قد تفصّد وتبعثر في كلّ الفنون، فنجده في السرد، ونجده في السينما، ونجده في الفوتوغرافيا، كما نجده في المسرح؛ بمعنى أنّه حتى وإن كان يوجد نصّ شعريّ محض إلا أن الشعريّة موجودة في كلّ الفنون والألوان بنسب أو بجرعات تضفي على النصوص الأخرى أو الأجناس الإبداعيّة الأخرى من الشعرية وهكذا هو الأمر بالنسبة على سبيل المثال فنجد أنّ السرديّة دخلت إلى الشعر فصارت قصيدة النثر تحتمل هذا اللون السردي، وهكذا ما نقرأه الآن، وما نستقبله من تجريبات في أغلبه لا ينمّ عن دراية أو عن خبرة في التعامل مع الفنون، وإنما هي محاولة لبعثرة الخطاب الجمالي في أكثر من لون أدبي، وهذا هو مكمن السر في الارتباك في أغلب النصوص التي نستقبلها.