ليس يكفي أن نندد او نستهجن الأساليب التي يلجأ إليها الإسرائيليون في ملاحقة ناقديهم، والدفاع عن باطلهم.ذلك أن نقد سلوك "الاغيار" أمر سهل للغاية، ولا يحتاج إلى شجاعة او بطولة، إنما الأجدى والأنفع أن نتعلم من ممارساتهم كيف ندافع عن حقنا. فالذين يتحركون ويعملون، قد يحتالون لأجل حماية مصالحهم وبلوغ مقاصدهم لا يلامون. أما الذين يستحقون اللوم والتقريع حقاً فهم القاعدون الذين لا يعملون، وينفقون أوقاتهم في مراقبة غيرهم وتجريح أقوالهم وأفعالهم، ثم ندب حظوظهم وإشهار مظلوميتهم طالبين الإنصاف والنجدة من الآخرين. (1) الذي أدعو إليه هو أن نحول الهجمة إلى درس وعبرة. وفي هذه الحالة فان الفائز لن يكون بالضرورة من شن الهجوم، وإنما من استوعب الدرس وتعلم منه. وهي عبرة أنبه إليها بمناسبة الدعوى التي أقامتها إحدى المنظمات الصهيونية في باريس، واستدعت بمقتضاها رئيس تحرير الأهرام بصفته لمحاسبته امام المحكمة العليا في باريس على مقال نشرته الصحيفة لزميلنا الأستاذ عادل حمودة في 28/10/2000، لم تكن هذه هي الواقعة الوحيدة من نوعها. وإنما هي مجرد حلقة في سلسلة الملاحقات التي يشنها اليهود في أنحاء العالم، لإسكات الأصوات التي تنطق بشيء لا يرضي أهواءهم او يمس دولة اسرائيل. ومن المصادفات ، فان العاصمة الألمانية برلين شهدت جدلاً حاداً حول حكاية العداء للسامية ، بسبب رواية بعنوان موت ناقد من تأليف أحد ابرز الكتاب الألمان مارتين فالسر ، كان بطلها يهودياً، وقيل انه قدم على نحو مثير للسخرية، الأمر الذي أثار استياء المنظمات الصهيونية، فأشهرت في وجه مؤلفها على الفور تهمة معاداة السامية . وهي التهمة التي وصم بها كل باحث او مفكر حاول أن يقترب من الشخصية اليهودية او يجتهد في قراءة او تحليل شيء من التاريخ اليهودي خصوصاً وضع اليهود في ظل ألمانيا النازية. وفي المقدمة من هؤلاء رجاء جاردوي، وهو من أهم الفلاسفة الفرنسيين، ودافيد ايرفنج أهم مؤرخ إنجليزي مختص بالتاريخ الألماني. والاثنان تعرضا للاغتيال المعنوي، الذي قاد جارودي إلى ساحة المحاكم الفرنسية، ودفع ايرفنج إلى بيع بيته ليتعيش من قيمته، بعدما أغلقت في وجهه أبواب الرزق، والاثنان من ضحايا ذلك الإرهاب الفكري الذي تمارسه المنظمات الصهيونية. (2) في الثاني عشر من سبتمبر يوليو الماضي أصدرت محكمة الجزاء في باريس حكمها في قضية الإذاعي المعروف دانييل ميرميه الذي اتهم بالقذف ومعاداة السامية والحض على الكراهية العنصرية من قبل المنظمات اليهودية الناشطة في فرنسا. وكانت جريمة ميرميه انه قدم في يونيو من العام الماضي (قبل أحداث سبتمبر) سلسلة برامج من إذاعة فرانس انتير ، كانت مكرسة للصراع العربي الإسرائيلي، ونقل شهادات لمدنيين من سكان قطاع غزة (كان عددهم 18) تحدثوا فيها عن معاناتهم بسبب الاحتلال، كما أعطى الفرصة لمدنيين إسرائيليين قالوا رأيهم أيضاً، وهؤلاء كان عددهم 11 إسرائيلياً. من الكلام المشبوه الذي استدعي بسببه المذيع الشهير إلى المحاكمة، قول أحد المستمعين العرب عن الحكومة الإسرائيلية: ما هذه السلطة المولعة بالتعذيب، التي يروق لها قتل الأطفال وتشويه الأجساد، والتي تبرر يوماً بعد يوم وبعجرفة قاتلة ما لا يمكن قبوله، والتي تمتلك الغطرسة الوضيعة لوصفنا بأننا عنصريون، عندما نتجرأ بخجل على الاحتجاج على السلوك الشائن؟ ما هم هؤلاء المنافقون؟ الذين يجيدون ببراعة كبيرة التلويح بدرع اللاسامية، عندما نسعى إلى تذكيرهم بقولهم انهم منذ خمسين سنة يقومون بإعادة انتهاج الظلم الذي عانوا منه. إنني معاد بقوة للصهيونية ولست لا سامياً في شيء. الذين رفعوا القضية كانوا جهات عدة تحت السيطرة الصهيونية: جمعية محامون بلا حدود ، واتحاد الطلبة اليهود في فرنسا، والعصبة الدولية ضد العنصرية واللا سامية (ليكرا). أثناء المحاكمة جرت مناقشات طويلة حول العلاقة بين اللاسامية وبين معارضة الصهيونية، وحاول الدفاع أن يثبت انه ليست هناك علاقة ضرورية بين الاثنين. وهي وجهة نظر اقتنعت بها المحكمة، التي برأت الإذاعي الكبير. واعتبرت أن ما قيل في البرنامج يمثل انتقاداً للسياسة الإسرائيلية فحسب، ولا يشكل تهمة من ذلك القبيل الذي استنفر المدعين ودفعهم إلى رفع القضية. لا يقف الأمر عند ذلك الحد وإنما أنشأت المنظمات الصهيونية ميليشيا من الشباب اليهودي في منظمة باسم بيتار (هي فرع لمنظمة عالمية بهذا الاسم)، تتولى الاشتباك والاعتداء بالضرب على كل من تسول له نفسه انتقاد اسرائيل (المنظمة تتلقى معونة من الحكومة الفرنسية ويتدرب أعضاؤها على السلاح في ثكنات الجيش الإسرائيلي، في دورات سنوية) فحين رحلت اسرائيل الناشط الفرنسي جوزيه بوفيه، الذي سافر مع آخرين إلى رام الله تضامناً مع الرئيس عرفات أثناء حصاره في محبسه، وذهبت جماعات من مؤيدي بوفيه لاستقباله بمطار أورلي الباريسي، فان تشكيلاً من خمسين شاباً يمثلون منظمة بيتار اعتدوا عليهم بالضرب، كما وضع اسم الكونفدرالية الزراعية الفرنسية التي يعتبر بوفيه ناطقاً باسمها، ضمن لائحة الأماكن التي يجب تدميرها ، في موقع بيتار على الإنترنت. وحين ذهب موكب من الفرنسيين رافعين الأعلام الفلسطينية والكوفيات، إلى إحد المستشفيات للتبرع بالدم للفلسطينيين، في أوج فترة حصار رام الله ومخيم جنين هاجمهم أعضاء منظمة بيتار أثناء سيرهم، وسقط من المتبرعين سبعة جرحى بسبب الضرب. وبعدما انتقدت صحيفتا لوموند و لبراسيون سياسة حكومة شارون، ظهرت على جدران مباني الصحيفتين كتابات تتهمهما بمعاداة السامية، وشمل الاتهام أيضاً بلانتي رسام الكاريكاتير الشهير في صحيفة لوموند ، الذي تجرأ بدوره وصور في بعض رسومه وحشية الاجتياح الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. (3) أشرت قبل أسبوعين إلى قصة عضو البرلمان الألماني ذي الأصل السوري، جمال قارصلي، الذي أقام عليه المجلس اليهودي هناك القيامة، فدعي إلى التخلي عن ولايته البرلمانية، وهي سابقة لم تحدث من قبل، وجمد طلب عضويته للحزب الديمقراطي الحاكم، واتهمه وزير الخارجية بانعدام المسئولية السياسية والأخلاقية، لمجرد انه انتقد الإرهاب الإسرائيلي. وحين ذكر قائد طائرة شركة ايرفرانس لركابها أثناء هبوطها في مطار اللد، اهلاً بكم في اسرائيل وفلسطين، وقالها بحسن نية في محاولة لمجاملة بعض ركابها العرب، ثار اليهود الذين اعتبروا ذكر اسم فلسطين استفزازاً لهم. وكبرت الحكاية حتى تحولت إلى دعوى إلى مقاطعة الشركة من قبل المواطنين ورجال الأعمال والشركات الإسرائيلية الكبرى. وبعث مدير شركة الاتصالات الحكومية (بيزك) بخطاب رسمي إلى الشركة الفرنسية ينذرها بأنها ستتعرض للمقاطعة، اذا لم تعتذر عن تلك الجريمة الشنعاء ، وتطرد قائد الطائرة الذي تفوه بكلمة فلسطين! ولم تملك الشركة سوى تقديم الاعتذار المطلوب، والتنديد بما فعله قائدها، قائلة انه فعل ذلك على مسئوليته الشخصية! في أوائل أبريل الماضي عنَّ للسيدة جريتا ديوزنبرج زوجة رئيس البنك المركزي الأوروبي أن تعرب عن تضامنها من تظاهرة خرجت آنذاك تضامناً مع المرأة الفلسطينية، فكل ما فعلته أنها اشترت علماً فلسطينياً وعلقته في شرفة بيتها، ولم تمرر المنظمات الصهيونية هذه الجريمة ، فتلقت المرأة تهديدات بالموت، وطلب المجلس اليهودي العالمي معاقبة الزوج الأمريكي الجنسية، بمنعه من الدخول والإقامة في نيويورك، رغم انه انتزع العلم بعد ذلك وطواه. وحين حدثت مشادة بين السيدة جريتا وبين بعض جيرانها الذين لهم أقارب في اسرائيل، وقالت أثناء المشادة اليهود مسئولون عن الاضطهاد الذي يعاني منه الفلسطينيون، اغتنم أحد المحامين الفرصة، ورفع دعوى باسم الجمعية الاتحادية اليهودية الهولندية، اتهم فيها المرأة باللاسامية والحض على الكراهية! السيدة شيري زوجة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير واجهت نفس التهمة حين عبرت عن تعاطفها مع الضحايا الفلسطينيين، فأثيرت في وجهها الزوابع، واضطرت بعد ذلك الى أن تكفر عن ذنبها بالدعوة إلى إقامة حفل كبير خصص دخله لصالح الضحايا الاسرائيليين، فقبض الفلسطينيون كلاماً تم محوه على الفور، وقبضت اسرائيل ما تم جمعه من فلوس في تلك الحفلة الخيرية ! ذلك حدث في أوروبا، ولا تسأل عما يحدث في الولاياتالمتحدة، حيث التعبئة اشد لصالح اسرائيل، والعيون مفتوحة عن آخرها، والسيوف مشهرة فوق رقاب كل الذين يتعاطفون مع المظلومية الفلسطينية فحسب - وهم قلة على أي حال - وإنما أيضاً كل من يقول كلمة إنصاف في موضوع الصراع، ولا ينحاز بالكامل (ليس اقل من نسبة 100%) لوجهة النظر الإسرائيلية. لقد تعرضت شبكة سي. أن. أن للتهديد بالمقاطعة وحرمانها من البث داخل اسرائيل، لمجرد أنها بثت بعض الأشرطة التي توزع للفدائيين الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية قبل انطلاقهم نحو أهدافهم. وزاد الطين بلة أن صاحب الشركة تيد تيرنر قال لصحيفة الجارديان البريطانية: أن الفلسطينيين والإسرائيليين شركاء في ممارسة الإرهاب، لكن الشركة لم تصمد امام الضغوط، فاعتذرت للإسرائيليين، وسجل مديرها حواراً مع تليفزيون تل أبيب تبرأ فيه من كلام صاحبها. كما تعهد المدير بتسجيل خمس حلقات عن ضحايا العمليات الاستشهادية من الإسرائيليين، ستقوم الشبكة ببثها في أنحاء العالم (مليار مشاهد يتابعونها في 212 بلداً). ما حدث مع سي. أن. أن تكرر مع قناة فوكس الإخبارية، التي تخلت عن توازنها وسارعت إلى تقديم فروض الولاء والانصياع لإسرائيل. صحف أمريكية كبيرة ومحترمة مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ولوس انجيليس تايمز، تعرضت للاتهام بمعاداة السامية والانحياز للفلسطينيين، ومن ثم للمقاطعة وإلغاء الاشتراكات، حين حاولت في بعض - وليس كل ما تنشره - أن تضع بين أيدي قرائها الحقيقة في الأرض المحتلة كما هي أثناء الاجتياح الإسرائيلي، إذ اعتبر ذلك جرماً يستحق العقاب ويستوجب التكفير عنه. (4) ثمة ملاحظتان أساسيتان يستخلصهما المرء من تلك النماذج التي مررنا بها - وهي قليل من كثير بطبيعة الحال. الملاحظة الأولى أن ثمة رصداً صهيونياً واسع النطاق لكل تصرف او كلمة تتصل بالشأن اليهودي بشكل عام. وفي حدود علمي فان كل ما تنشره الصحافة العربية بوجه أخص في هذا الصدد، يترجم يومياً ويعمم على مختلف الجهات المعنية بالأمر. الملاحظة الثانية أن مختلف الكتابات والانتقادات التي سبقت الإشارة إليها تكاد تنحصر في نقد السياسة الإسرائيلية او مراجعة التاريخ اليهودي، في حين لا يقدر أحد على المساس بالعقيدة اليهودية او بالشخصية اليهودية. حين يقارن المرء هذا الذي يخص اليهود والإسرائيليين، بحظوظ العرب والمسلمين من النقد والتجريح، سيجد أن ما يوجه إلى اسرائيل لا يكاد يذكر إلى جانب سيل الانتقادات والاتهامات التي توجه للعرب والمسلمين. ذلك لا ينسحب على الكم فقط، ولكنه يمتد إلى النوع أيضا، فإذا كان ما يوجه إلى اسرائيل لا يتجاوز حدود السياسة والتاريخ، فان سهام النقد والتجريح الموجهة ضدنا - خصوصاً بعد 11 سبتمبر - تجاوزت تلك الحدود إلى العقيدة والتقاليد والشخصية، أي إلى الإسلام كديانة والى العرب كجنس. حتى أزعم انه ليست هناك أمة في التاريخ لقيت من الظلم والهوان والتجريح ما يلقاه العرب والمسلمون في هذا الزمان. إذ يقارن المرء بين ذلك الإرهاب المفرط الذي يتعرض له كل من يدوس لليهود على طرف، في تاريخهم او سياسة دولتهم، وبين تلك الاستباحة الكاملة لكل ما يتصل بالعرب والمسلمين، بما في ذلك دينهم وجنسهم، فلا بد أن يخطر له السؤال التالي: هل ما أصابنا نتيجة لاجتراء الآخرين أم بسبب صمتنا وانكسارنا. وسوف يفرخ السؤال سؤالاً اخر هو: لماذا يعملون ألف حساب ل 14 مليون يهودي (4 ملايين فقط منهم في اسرائيل) ولا يخطر لأحد أن يعمل أي حساب لأكثر من مليار عربي ومسلم؟ ليس من شك أن في جانبنا شيئاً غلطا أغرى الآخرين بالاستقواء علينا والاجتراء على حرماتنا وعقائدنا، لذلك فمن المهم للغاية أن نستعيد عناصر القوة والمنعة في مجتمعاتنا ولا نكتفي بمجرد التنديد باجترائهم وافتراءاتهم ومقاصدهم الشريرة. قلت لا نكتفي بالتنديد، ولم اقل نسكت حتى تنصلح أحوالنا ونستعيد عافيتنا، إذ يتعين علينا في الوقت ذاته أن نتعلم شيئاً من أساليب النضال المدني والقانوني التي يستخدمونها، وهي التي تحتاج إلى هّمة أصحاب المصلحة، وتمويلا من الغيورين على كرامة الأمة ومستقبلها. ان التعامل الجاد مع صور الترهيب الإسرائيلي يحتاج إلى تفكير رصين ومسئول، يستهدف معالجة الخلل في أوضاعنا، وعدم السكوت على ما يوجه إلينا من تجريح وإهانات، ومواصلة النضال المدني في الساحات الدولية، جنباً إلى جنب مع المقاومة بكل الصور الأخرى في الأرض المحتلة. ان الذين يستحقون الاحترام حقاً هم أولئك الذين يتمسكون بالدفاع عن كرامتهم وشرف أمتهم، ويتصرفون على نحو جدير بالاحترام.