دخل كثير من الأمريكان حالة الكوما الاقتصادية وهم يرون ذلك الحلم الخيالي للرفاهية يتهاوى أمام كثير من الضربات التي لحقت بالنظام الرأسمالي لبلادهم، بحيث أصبحت الدولة تعجز عن توفير كثير من الخدمات الأساسية والاقتصاد الوطني ينوء من أحمال ديون بأرقام فلكية في وقت لا يسجل فيه أي فائض طوال عقد من الزمان. ديون الولاياتالمتحدة أصبحت كرة ثلج يراقب الأمريكيون نموها على شاشة إلكترونية في وول ستريت يوميا حتى ناهزت 17 تريليون دولار، وهذا الرقم الضخم ما يجعل الأمريكيين لا ينامون بحيث يحلمون بواقع ومستقبل أفضل مع تراجع اقتصاد بلادهم التي لم تعد أرض الفرص، إنهم في الواقع أعلنوا شهادة وفاة «الحلم الأمريكي» حينما أصبحوا يرفعون باستمرار لافتات تطالب بالوظائف وآخرها تلك التي تعلن نهاية ذلك الحلم الذي تحوّل الى كابوس. وقبل أكثر من عقد بقليل، لم يكن أحد يتصور أن الولاياتالمتحدة ستجد نفسها في هذا الوضع. فخلال الازدهار الاقتصادي الذي قادته التكنولوجيا في تسعينات القرن المنصرم، تجاوزت العائدات الفيدرالية الإنفاق للمرة الأولى منذ عقود لتسجل فائضا. وفي أبريل 2001، سجلت الميزانية الفيدرالية فائضا بلغ الذروة ونسبته 2.61 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، حسبما ذكرت شركة (ويلز فارجو) القابضة للخدمات المصرفية والمالية الأمريكية. وقد كانت فرص العمل متوافرة ومعدلات البطالة منخفضة. وشباب خريجي الجامعات يبدؤون عملهم المهنى في ظل اقتصاد مزدهر وقطاع التكنولوجيا يذكى سوق أسهم آخذا في التصاعد. وبدا المستقبل مشرقا. ولكن بعدئذ وقعت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في نيويوركوواشنطن عام 2001 لتتبعها حروب باهظة التكلفة في العراق وأفغانستان، وبدأ الإنفاق العسكري يدفع نحو تضاؤل الفائض، حسبما أشارت شركة ولز فارجو. وبعد عدة سنوات، حلت أزمة ثانية عندما بدأ الاقتصاد الأمريكي يشهد تراجعا. وقاد ذلك إلى توقيع حزمة التحفيز البالغ قيمتها 787 مليار دولار أمريكي لتصبح قانونا في عام 2009، ما أحدث قفزة كبيرة بعيدا عن الفائض وأدى إلى دخول المنطقة السلبية، حسبما أشار مايكل براون الخبير الاقتصادي في ويلز فارجو خلال مقابلة أجرتها معه وكالة أنباء (شينخوا). وقال براون إن الاستحقاقات سوف تدفع الديون إلى المضي قدما، مضيفا أن صافي مصروفات الفوائد ستصبح أيضا عاملا يسهم في ذلك. ويتنبأ مكتب الميزانية بالكونغرس بأن ترتفع الديون إلى مستويات غير مشهودة منذ الحرب العالمية الثانية، ويقدر بأنه خلال الفترة من 2014 إلى 2023، سيتكلف الضمان الاجتماعي حوالى 11 تريليون دولار. ومن المقدر أن يتكلف برنامج (ميديكير) 8 تريليونات دولار خلال فترة العشر سنوات نفسها ومن المتوقع أن يتكلف برنامج (ميديكايد) للرعاية الصحية للأمريكيين ذوى الدخل المنخفض 4.3 تريليون دولار. وهذا يشكل فاتورة تصل قيمتها إلى 23.3 تريليون دولار، دون حساب النفقات الحكومية الأخرى. وسينبثق قدر كبير من الإنفاق -رغم أنه ليس كله- عن قرابة 80 مليون فرد ولدوا في فترة طفرة المواليد بين عامي 1946 و1964 وأحيلوا إلى التقاعد الآن. كل تلك التداعيات تدعو الى التفكير العالمي في قيادة اقتصادية جديدة أو أن يكون العالم أقل أمركة واعتمادا على الاقتصاد الأمريكي خلال المرحلة المقبلة، وذلك ما اتضح من خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي ومعهد التمويل الدولي أخيرا، في واشنطن وسط عاصفة من الجدل السياسي بشأن رفع سقف الدين الأمريكي وحالة التخبط المالي الاقتصادي التي يشهدها أكبر اقتصاد عالمي. فرغم ما تحقق من رفع سقف الدين الأمريكي وفتح الحكومة الأمريكية أبوابها بعد جدال وجذب كبيرين، فإن الأزمة لم تنته بعد وستعود إلى الواجهة قريباً. ما حدث، لا شك، أصاب الجميع ممن حضروا هذه الاجتماعات الدولية بحالة من القلق –وربما الذعر أحياناً– من مستقبل الاقتصاد العالمي الذي تقوده الولاياتالمتحدة وهي غير قادرة على التعامل مع سقف ديونها أو استمرارية عمل منشآتها الحكومية. وقد بدأ العالم يفقد الثقة في الاقتصاد الأمريكي، ولم تعد هناك ضمانات كافية ومناسبة لأن تتولى أمريكا قيادة العالم أو أن يبقى اقتصادها في المقدمة ليحجب بأزماته ومشكلاته آفاقا جديدة للاقتصاديات العالمية النامية والتي تتجه بقوة وتسارع الى الصدارة الاقتصادية الدولية، فقد استوعبت الدرس الأمريكي وأمامها فرصة مثالية لتنطلق وتقود العالم بلغة اقتصادية جدية ونظام أكثر مرونة وصلابة أمام الاهتزازات والمتغيرات. وفقدان الاقتصاد الأمريكي للثقة ليس قاصرا على العالم فقط، وإنما في الداخل الأمريكي تتصاعد مؤشرات عدم الثقة في اقتصادهم الوطني، فقد أظهر مسح نشر أمس الأول انخفاض معنويات المستهلكين الأمريكيين في أكتوبر الجاري إلى أدنى مستوى منذ نهاية العام الماضي وسط قلق من تضرر النمو بسبب أزمة الكونجرس وما نتج عنها من إغلاق أنشطة للحكومة الأمريكية. وأظهرت القراءة النهائية في المسح الذي أجري بالتعاون بين تومسون رويترز وجامعة ميشيجان انخفاض المؤشر العام لثقة المستهلكين إلى 73.2 في اكتوبر من 77.5 في سبتمبر مسجلا القراءة الأدنى منذ ديسمبر.