استطاع داود الشريان خلال برنامجه "الثامنة" أن يطرح نموذجه الخاص لمناقشة القضايا المحلية بشفافية أمام الرأي العام، وهو النموذج الذي كان وراء ظهور داود كشخصية مجتمعية تقف أمام المسؤول بالنيابة عن المواطن، وتطرح عليه الأسئلة الأكثر إلحاحاً بشأن إخلاصه في عمله وخدمته للناس، وقد جاء اختيار الشريان رئيساً لهيئة الإذاعة والتلفزيون ليمثل أول انتقال له من خانة المراقب الذي يطرح الأسئلة إلى خانة المسؤول الذي يفترض به الإجابة على هذه الأسئلة. خلال هذه التجربة، سيكون على الرجل أن يجمع بين الخبرة المهنية والإدارية في إعادة الوهج إلى كيان يخوض تحدي إعادة إيجاد موقع للإعلام التقليدي في واقع تنافسي غير مسبوق، فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هي الشاشة الأبرز، والإعلام الجديد بات منصة الجمهور الأولى فيما لم يعد يمكن الجزم بأن التلفزيون والإذاعة في المنصة الثانية ولا حتى الثالثة من حيث جذب الاهتمام، بعد أن تغيرت قواعد اللعبة من مجرد تقديم المحتوى إلى صناعته والتأثير به والتفاعل معه، وتغيرت طبيعة المتلقي، حيث تحوّل من كنا نصفهم بالمشاهدين الذين ينتظرون المعلومة من الإعلام، إلى جمهور من الصحفيين الذي يسبقون الإعلام إليها. النجاح في مهمة كهذه يتطلب إعادة تشكيل الهيئة ونموذج عملها واستراتيجياتها، وهو ما يحتاج عملاً ممنهجاً ينطلق أولاً من التعرف عن قرب على واقع الهيئة ومشكلاتها الحقيقية، بدءاً من بيئة عملٍ عانت على مدى سنوات طويلة من غياب المعايير في كفاءة التوظيف، فبات التلفزيون بمثابة بديل البطالة لمحدودي التأهيل والمهارات بل وحتى أولئك الذين لا يحملون تخصصاً إعلامياً، فيما كانت اعتبارات غير مهنية وراء استقطاب أشخاص ليحلوا مكان غيرهم ممن هم أكثر استحقاقاً وإنتاجية، وهو ما أثر على مخرجات الأداء العام للموظفين في هذه الهيئة. ولا يمثل هذا سوى جزء فقط من عملية التصحيح الجذري التي يفترض القيام بها، فهناك جوانب أخرى تتعلق بالكفاءات الموجودة وبموظفي الهيئة الذين يملكون الخبرة ويستحقون التحفيز والتمكين الذي يعيد تحفيزهم لاسيما بعد أن علقوا آمالهم خلال الثلاث سنوات الأخيرة فقط على خمسة رؤساء مختلفين ولم يروا أي تغيير يذكر حتى انعكس ذلك على الكثير منهم بالإحباط، وحوّل تجربتهم المهنية إلى مجرد أداء عمل يومي يفتقر إلى التجديد والمبادرة وينتظر الفرصة الأقرب للبحث عن وظيفة أخرى. سيكون على الشريان كذلك أن يضخ روحاً جديدة في قلب الهيئة من خلال التأسيس لنظام إداري دقيق يحتكم للجودة في الموارد البشرية، ويعتمد على تقييم الأداء وتحديد الأهداف وقياسها، كما يحدد على وجه الدقة آليات التعاون والتعاقد وتقديم الخدمات الإنتاجية بشكل يقضي على العشوائية والارتجالية ويعبر عن ثقافة مؤسسية يتم فيها تطبيق أقصى درجات الاحترافية على يد طاقات وطنية في بيئة عمل مثالية تضمن لها التدريب والتدرج الوظيفي والتقدير المادي الذي لا يقل عن القطاع الخاص. من واقع كهذا، يمكن الانطلاق بثقة أكبر نحو تحويل هيئة الإذاعة والتلفزيون إلى مؤسسة منافسة تنتمي إلى هذه المرحلة، وتملك تصوراً واضحاً للنهوض بمواردها البشرية والفنية والمادية، كما تملك رؤية متكاملة عن مستقبلها، تشمل كيفية جذبها للاستثمار الذي سيمكنها من كسب ثقة المعلن وتعزيز الشراكات مع قطاع الأعمال والمجتمع على حد سواء، وجميعها عوامل ستعني الانتقال إلى مراحل أعلى في جودة الأداء والمخرجات واستقطاب المواهب، والظهور بصورة تتناغم مع توجه وزارة الثقافة والإعلام نحو التحديث الشامل وتقديم صورة تليق بمكانة وطننا ورؤيته الطموحة. وأخيراً، إدراكنا لحجم المسؤولية في تطوير قطاع ننتمي له هو مايدفعنا للوقوف مع الزميل داود بالفكرة والرأي وكلنا ثقة أن هذه المحطة تمثل تكريماً لمسيرته تماماً كما تمثل مسؤولية حقيقية له في إحداث نقلة نوعية في أحد أهم واجهاتنا الإعلامية، وإن كان الناس قد عرفوا الشريان وهو يسأل المسؤولين بشفافية عن تقصيرهم في أداء عملهم، فإن الأمل كبير في أن ينجز الرجل في هيئة الإذاعة والتلفزيون ما يجعله يملك كل الإجابات المطلوبة دون تردد، في حال قدّر لبرنامج "الثامنة" أن يعود ذات يوم، وقدّر لداود الشريان أن يجلس حينها في كرسي المسؤول الضيف! *مذيع بالقناة السعودية الأولى