ثمة «قنبلة» كبيرة في مبنى «ماسبيرو» (مبنى الإذاعة والتلفزيون) في القاهرة، فضلاً عن «قنابل» شبيهة في مؤسسات الصحافة المملوكة للدولة (القومية)... وكلها توشك على الانفجار! إلى ذلك، هناك محاولات عدة لاحتواء الانفجار الحتمي، لكن الخوف يكمن في أن تتحول المحاولات إلى عناصر مؤججة للانفجار. وكان ملف الإعلام الحكومي الملغوم في مصر فتح في الفعالية الأولى التي نظمها «النادي الإعلامي» الذي دشنه «المعهد الدنماركي - المصري للحوار» في القاهرة أخيراً. حوار الإعلام المملوك للدولة له شجون، وله أيضاً نقاط اشتعال أبرزها الجانب الإنساني الذي يلقي بظلال اجتماعية واقتصادية وخيمة على الملف برمته. مديونية رهيبة «لو بيعت بعض المؤسسات الصحافية القومية المملوكة للدولة... فإنها لن تغطِّي ديونها، وكلنا يعلم حجم المديونية المستحقة على الصحف القومية، لكن الكارثة الكبرى تقبع في مبنى الإذاعة والتلفزيون حيث يعمل 43 ألف موظف، فيما حاجة العمل الفعلية لا تزيد على 18 ألف شخص. والنتيجة هي أن المبنى مدين ب17 بليون جنيه، تزيد بليوناً كل عام. والغريب أن الغالبية العظمى من المطالب والتظاهرات من داخل المبنى تتعلق بأمور مالية لا علاقة بالمهنية بها. من هنا، يخرج السؤال الآتي: هل المنتج الإعلامي الصادر يتناسب وهذا الإنفاق الرهيب؟». أسئلة كثيرة طرحها وزير الإعلام السابق أسامة هيكل الذي كان تقلّد منصبه خلال فترة ال150 يوماً، وهي الفترة التي تزامنت واندلاع التظاهرات الإعلامية الفئوية المطالبة بتحسين الأجور، والتي لم تدع مجالاً للتفكير في تقويم المنتج الإعلامي «المتردي» والعودة إلى المربع صفر: هل يستحق هذا المنتج ما يُنفق عليه؟ يبدو أن الإجابة هي «لا»! الباحث الإعلامي ياسر عبدالعزيز يؤكد أنه مع اندلاع «ثورة 25 يناير» 2011 أصبحت المنظومة الإعلامية المملوكة للدولة شديدة الضخامة والاتساع، وانطوت على الكثير من جوانب الفساد والخلل. ويقول: «طوال العقدين الأخيرين عجزت المنظومة الإعلامية المملوكة للدولة عن أن تكون مصدر اعتماد رئيسياً للجمهور المصري لتفاقم الفساد فيها وإخفاقها في الوفاء بالمعايير المهنية اللازمة، وكذلك لارتهانها لمصالح نخبة ضيقة في الدولة (أي الحكومة التي هي الحزب الحاكم)، إضافة إلى عدم قدرتها على مواكبة التغييرات الكبيرة التي طرأت على الفضاء الإعلامي الإقليمي والدولي، وإهدار الموارد التي تستخدمها، وافتقارها إلى الإطار المؤسسي، وعدم خضوعها لأي من أنماط التنظيم الذاتي الفعال، أو الرقابة على الأداء وضمان الجودة». «مافيش فايدة» هذه النظرة التشريحية إلى إعلام الدولة تبدو وكأنها دليل دامغ على صحة مقولة الزعيم المصري الراحل سعد زغلول: «مافيش فايدة»! لكن لا يأس مع الحياة، ولا تسليم بعقم المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة طالما هناك موارد بشرية وإمكانات مادية وقدرة على التغيير وإرادة للتحديث! يقول عبدالعزيز إن الإعلام المملوك للدولة ينطوي على استثمارات مجتمعية ومالية كبيرة، ولديه تاريخ عريق، ويمتلك أدوات صناعة متكاملة، ويتمتع بتمركز جيد، لذا فإن الديون المتراكمة والتراجع المهني الحاد يجب أن يخضعا للعلاج، سواء لأسباب اجتماعية وسياسية تتعلق بحقوق العاملين، أم لأسباب مهنية تتعلق بضرورة تفادي التفريط في تلك الأصول في أكثر أوقات تدني قيمتها السوقية بفعل ما لحق بسمعتها من أضرار، وما تعرضت له من تجريف وإفساد وسوء إدارة. ولأنه يفترض أن يكون الإعلام خدمة عامة، فإن التجارب الواردة من دول أكثر تقدماً وديموقراطية تشير إلى حتمية التعددية والشفافية اللتين لن تتحققا إلا بفصل ملكية الدولة عنه. الخبير الإعلامي الدنماركي ليف لونسمان يرى أن هذا الفصل ضرورة تمنع سيطرة الحزب الحاكم، بصرف النظر عن سياساته، على الإعلام، لكن هيكل رأى أن تحرير الإعلام الرسمي من قبضة الدولة يرتبط بتغيير نمط الملكية. علاقة محرمة اتضحت العلاقة «المحرمة» بين الملكية والانتماء في أحداث «ثورة يناير» التي كشفت الستار عن الكثير من العورات الإعلامية الرسمية. يقول عبدالعزيز ان الثورة كشفت عدداً من العوامل المتعلقة بأداء المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة ونمط ملكيتها وتشغيلها والعوائد من هذا التشغيل. ويوضح: «اتضح افتقادها الرؤية والاتجاه الإداري والتحريري والتشغيلي، كذلك ارتهان منظومة الإعلام الرسمي للحكومة - وليس للدولة - بل لجناح ضيق في الحكومة جسدته مجموعة مصالح محددة، وأحياناً أخرى للحزب الوطني الديموقراطي الحاكم (سابقاً) ولجناح ضيق في هذا الحزب. وأكدت تغطيات الثورة أيضاً أن الجمهور المصري يفقد الثقة بهذه المنظومة الإعلامية، خصوصاً بعد انتقالها المثير للدهشة والجدل من أقصى درجات الولاء للنظام السابق إلى أقصى درجات التشهير به». وأشار عبدالعزيز إلى ملامح أخرى كشفت عنها الثورة، مثل تفاقم المظالم والمفاسد، وعدم خضوع أي من هذه الوسائل للمساءلة في شكل مستمر، مع «استمرار نزعة التحكم الحزبية في وسائل الإعلام بعد الثورة من خلال استخدام مجلس الشورى صلاحياته المثيرة للجدل في تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية، وتعيين رئيس الوزراء هشام قنديل وزير إعلام ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين» (صلاح عبد المقصود) ليدير وسائل الإعلام المسموعة والمرئية المملوكة للدولة». القضاء على الإقطاع ودق الوتر ذاته الكاتب الصحافي وائل قنديل، معتبراً أنه على رغم صعود رئيس قادم من تنظيم سياسى على عداء مع زمن الستينات (عهد عبدالناصر)، فإن «نظامه بقي وفياً لتلك الحقبة في ما يتعلق بمرفق الإعلام الحكومي، فاستمرت معايير الاختيار كما هي في ما يخص منصب وزير الإعلام أو رؤساء تحرير الصحف الحكومية. والمفارقة أنه بعد ثورة وضعت ضمن مبادئها الستة هدف «القضاء على الإقطاع» وثورة ثانية تغني للحرية، بقي الإعلام الحكومي يدار بفكر إقطاعي بامتياز، توزع فيه الصحف والقنوات بالمنطق ذاته الذي كانت تمنح فيه الأبعاديات (الأملاك الزراعية) فى أزمنة الإقطاع». وذهب قنديل إلى حد التحذير من أن الإعلام المصري، بشقّيه الحكومي والمستقل، يجد ذاته فى دائرة الخطر، وذلك على وقع التحرشات العنيفة التى بدأت منذ إعلان تشكيل الحكومة الجديدة، وذلك «بين إيقاف قنوات، ومحاكمة صحافيين، وصولاً إلى نظرة وزير العدل الجديد إلى الإعلام كله باعتباره مستودع الشرور، حين قال إن حلم الجماعة الصحافية بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر لا يزال بعيد المنال، وأن الصحافة في رأيه كاذبة ويحكمها الهوى». هوى التغيير الذين حضروا الندوة حول الإعلام الحكومي في مصر التقى هواهم المهني على ضرورة الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في إعادة هيكلة وسائل الإعلام المملوكة للدولة. واقترح هيكل تحويل اتحاد الإذاعة والتلفزيون إلى شركة قابضة تضم خمس شركات تتولى إدارة «ماسبيرو» بكامل قنواته ومحطاته الإذاعية، مع إعادة هيكلة العاملين، مشيراً إلى أن ما يحتاجه «ماسبيرو» تحتاجه الصحف القومية»، مقترحاً تملك 50 في المئة من أسهمها للعاملين فيها بعد تحويلها إلى شركات مساهمة، مع طرح النسبة المتبقية للتعامل في البورصة. أما عبدالعزيز الذي قدم ورقة ثمينة عنوانها «تحرير الإعلام العام»، فيرى ضرورة الأخذ في الاعتبار عمليات إعادة هيكلة الإعلام في دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية عام 1989، خصوصاً في تشيخيا ويوغوسلافيا السابقة وبولندا، بالإضافة إلى تجربة ألمانيا الموحدة في إعادة هيكلة وسائل الإعلام المملوكة للحكومة الشيوعية في ألمانيا الديموقراطية السابقة، ومحاولة العراق بعد الغزو الأميركي تحويل قناة «العراقية» المملوكة للدولة إلى قناة تعمل بنمط الخدمة العامة. والرؤية التي يطرحها عبدالعزيز لإعادة هيكلة الإعلام المملوك للدولة في مصر ترتكز الى تحويله إلى هيئات خدمة عامة مستقلة، وتعزيز كفاءتها الإدارية والمهنية والمالية، وتشغيلها في خدمة المجموع العام مدة عشر سنوات على الأقل من دون التفكير في تفكيكها أو طرحها للخصخصة، مع إعادة صوغ الإطار القانوني والمهني الذي تعمل فيه هذه الوسائل. ويرى عبدالعزيز أن أبرز آليات إعادة الهيكلة هي إنشاء «الهيئة القومية للصحافة والإعلام» كجهة تمثل الدولة المصرية في إدارة وسائل الإعلام العامة. ونصح بأن تكون الصحف القومية مملوكة للدولة، لكن كهيئات مستقلة عن أي حكومة، وتكون تحت إشراف «الهيئة القومية للصحافة والإعلام»، على أن تكون الأخيرة مسؤولة أمام البرلمان، وذلك لمدة عشر سنوات يتوقع خلالها أن تعيد هيلكة ذاتها، وتحسن حظوظها التنافسية، وتستعيد صدقيتها، وتستعيد أموالها المنهوبة، وترشد أداءها المهني والاقتصادي، بما يحسن قيمتها السوقية ويعزز فرص التفكير في خصخصتها أو ما شابه. أما الخدمات التلفزيونية والإذاعية والإنترنت التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، فيجرى تحويلها إلى نمط «الخدمة العامة»، ولا تقع تحت سيطرة الحكومة أو إشرافها على غرار «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي). وبالنسبة إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون، فيصبح هيئة مستقلة ومسؤولة أمام «الهيئة القومية للصحافة والإعلام». مقترحات عدة وأفكار لا حصر لها تنتظر الدراسة والتفعيل قبل أن تنفجر الألغام الإعلامية المملوكة للدولة، والتي إن لم تنفجر تحت وطأة مشكلاتها الرهيبة، فإنها ستنفجر ذاتياً. أرقام الإعلام المصري المملوك للدولة مثقل بديون تقدر بنحو 29 بليون جنيه مصري، ويعمل فيه نحو 70 ألفاً بين إعلامي وإداري وعامل. يضم التلفزيون المصري الحكومي عدداً من القنوات هي: الأولى والثانية وتبثان أرضياً وفضائياً، والقنوات الإقليمية (القنوات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة)، وقنوات فضائية عامة («المصرية» و«النيل الدولية»)، وأخرى متخصصة مثل «المعلومات» و«النيل للأخبار» و«نايل سبورت» و«الأسرة» و«الطفل» و«الثقافية»... وغيرها.