في مكةالمكرمة، المعروفة ببساطة أهلها وتلقائيتهم، وخفة روحهم الممزوجة – بأعجوبة – بحرارة الدم، التي تلازمها الغلظة، وحدّة الطبع في الأصل، خاصة حين تستدعيها الظروف المناخية، وزحمة المكان بالسكان، إلا أن طيبة القلب المتأصلة في الإنسان المكّي تغلب دائمًا تلك الحرارة؛ لتحيلها حرارةَ ودٍّ وتِرحابٍ. في جولةٍ بين الأحياء القديمة، يلفت انتباهك محل صيانة للسيارات كُتبت لوحته بطريقة احترافية جاذبة بسيطة وصادمة في آن واحد، حجمها متوسط، تخلّوا من أي تنسيق مصطنع، دون مبالغات أو ألوان زاهية، اكتفت بسطر واحد، حَمَل عبارة: «أحسن كهربائي سيارات»!، وثّقتُ اللوحة بصورة، وقد يتعجّب القارئ من المبالغة في الاهتمام بهذه اللوحة القضية! وبعيدًا من أنها تعبّر عن تلقائية أهل مكة، وإعجابًا بالثقة، وبالطريقة غير المعهودة في اختيار الاسم، إذ غالبًا ما تُتّخذ مثل هذه العبارات كشعار للعلامة التجارية، وليس كاسْمٍ للمنشأة… ما الذي فعله صاحبنا هنا؟ - اختار اسمًا جديدًا، يوحي بقدر كبير من القوة والثقة بالنفس، بدأ نشاطه وترك لزبائنه الحكم، من الطبيعي أن يحاكَم هذا المحل – طبقًا لحساسية اسمه حيث اختار صفة الكمال – بدرجة مختلفة عن المحلات الأخرى المنافسة، فإمّا أن يصدُق عليه الاسم، وإمّا أن يصبح مضرب مثل بأنّ: أفشل وأسوأ كهربائي هو «أحسن كهربائي سيارات»! - حين اختار لنفسه الاسم واثقًا، لم يُكمل الحماس بأن يتقدم بشكوى للحكومة يدّعي فيها الأفضلية، ويطالب بإيقاف نشاط غيره، أو على الأقل جيرته من المنافسين، ولم يتّجه للشارع بحجة ضرورة منع غيره من التطاول، وعدم احترام المهنة التي لا يتقنها غيره! ** مدلولات اللوحة يمكن إسقاطها على لوحةٍ أكبر.. كيف؟! بتجاوز الحاجات الخدمية ذات النطاق الضيق، كالسيارات أو المطاعم إلى نطاقات أوسع، في الفكر، وفي السياسة، وفي الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها.. وإلى مستوى اتخاذ القرار! ** يحق لأي فرد يملك عقلاً وتأهيلا أن يفكر ويقدم مقترحًا، دون أن يستميت في إقصاء الآخرين، وادعاء الكمال. ** لكلٍّ أن ينشغل في تحقيق هدفه، شريطة إعطاء الفرصة للآخرين للمنافسة، أو على الأقل المشاركة في الانتقاد، والحكم على المشروع. ** الوضوح التام وقت ممارسة الهدف كفيل بحكم الشارع على المشروع، دون الحاجة إلى ممارسات خفية، ولا دعايات، ولا بروشورات! ** في نطاق الفكر لك أن تؤمن بفكرتك، وتعلّق لوحة على جبتهك بأنك (صاحب أعظم فكرة)، ولصاحبك أن ينادي دومًا بأنه عبارة عن كتلة مشروع ناجح! ** كل سلوك متاح، وكل ادعاء.. إلا أن يعّلق أحدنا لوحة تحمل مضمونًا ينادي بأنه (المفكّر الوحيد في هذا العالم)! رابط الخبر بصحيفة الوئام: أحسن واحد في الكون!