تتجه الحكومة العراقية نحو الإبقاء على جزء من القوات الأميركية بصفة مدربين وعناصر حماية لسفارة الولاياتالمتحدة في بغداد، وسط مواقف متباينة للأطراف المشاركة في الحكومة بين مؤيد ومعارض ورغبة في الاستعانة بحلف الناتو لتدريب وتسليح القوات العراقية. وخلال الاجتماع الأخير للقادة السياسيين تم تفويض رئيس الحكومة نوري المالكي للتفاوض مع الجانب الأميركي بخصوص المدربين، مع رفض منحهم أي نوع من الحصانة، واستنادا لهذا الاتفاق، أصبحت الكتل السياسية خارج دائرة التفاوض، وحملت الحكومة مسؤولية إبرام اتفاقية أو مذكرة تفاهم مع واشنطن التي تصر على أن يكون لها وجود عسكري في العراق بعد إنجاز انسحابها الرسمي. رفض ورغبة معظم الكتل المشاركة في الحكومة باستثناء التيار الصدري وائتلاف الكتل الكردستانية لم تتخذ موقفا واضحا تجاه الانسحاب، فكتلة الأحرار رفضت بشكل قاطع أي تواجد للقوات ومدربيهم، فيما أبدت القوى الكردية رغبتها في الوجود الأميركي في المناطق المتنازع عليها، وبقية الأطراف مازالت تتحفظ على إعلان مواقفها، بانتظار بلورة اتفاق موحد. هكذا بدت الصورة في المشهد السياسي العراقي بحسب الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد الدكتور سعد الحديثي الذي قال في حديثه إلى "الوطن": الخلاف السياسي العراقي القائم منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية انعكست تداعياته على الموقف العراقي تجاه الانسحاب الأميركي، وفي ظل غياب الثقة بين الأطراف المشاركة في الحكومة سيمر الموقف بمخاض صعب، لاسيما أن الكثير من القوى تشعر بأن مغادرة آخر جندي أميركي من العراق سيوفر فرص استتباب الأمن، ويمنح القوات العراقية استقلالية تامة في إدارة الملف الأمني"، موضحا أن الرؤية تصدم بموقف آخر من قبل القوى التي مازالت تشكك بتخلي رئيس الحكومة عن اتفاق أربيل وبقية الاتفاقات الأخرى التي بموجبها تم تشكيل الحكومة "القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي أعلنت رفضها الإبقاء على وجود القوات الأميركية تحت أي عنوان، لكنها أبدت قلقها من قدرة القوات العراقية على إدارة الملف الأمني، وبينت أسباب ذلك بهيمنة رئيس الحكومة على القوات المسلحة، وأن معظم الأجهزة الأمنية مخترقة، وهي بحاجة إلى المزيد من التدريب، ونظرا لتوتر العلاقة القائمة بالحكومة على الرغم من مشاركتها فيها بعدة مناصب وزارية إلا أن العراقية أكدت في أكثر من مناسبة، أنها بعيدة عن الملف الأمني، وحملت القائد العام مسؤولية اتخاذ أي موقف بخصوص الاستعانة بالمدربين أو الموافقة على بقاء قوات بصفة حماية للسفارة". وحول موقف التيار الصدري من مفاوضات الحكومة مع الجانب الأميركي، قال النائب عن كتلة الأحرار المنضوية ضمن التحالف الوطني بهاء الأعرجي في حديثه إلى "الوطن": زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أعلن وفي أكثر من مناسبة أن بقاء الاحتلال لن يسهم في إرساء العملية الديموقراطية في البلاد، وخلال الاجتماع الأخير للقادة السياسيين أعلنا موقفنا الرافض باللجوء إلى الولاياتالمتحدة لتدريب القوات العراقية". مشيرا إلى أن الجيش العراقي السابق وطوال تاريخه الذي يمتد أكثر من 80 عاما كان تسليحه من المعسكر الشرقي، وقال "نعتقد بأن مسألة المدربين الأميركيين ستفتح الباب أمام تدخل أوسع، فاستيراد الطائرات والمعدات من الولاياتالمتحدة يحتم على الحكومة أن تأتي بعدد كبير من المدربين، وحتى الآن لم تتضح الصورة حول حصانتهم، ومدى خضوعهم للقانون والقضاء العراقي، علما بأن الجيش العراقي يحتوي فرقة مدرعة واحدة وبإمكان تزويدها بالمعدات من أية دولة أخرى" مؤكدا أن كتلته "ستتخذ موقفا معارضا للإبقاء على جندي أميركي واحد في العراق، ونحن نفضل الاستعانة بحلف الناتو في مجال التدريب والتسليح". إرادة شعبية الأوساط الشعبية العراقية على اختلاف انتماءاتها، أعربت عن أملها في إنهاء الاحتلال الأميركي في العراق في أقرب وقت ممكن، والقوى السياسية لم تتجاهل هذه الرغبة، ولاسيما أن العراقيين ومنذ الغزو الأميركي تكبدوا خسائر فادحة بشرية ومادية وفي هذا الشأن قال القيادي في الحزب الإسلامي العراقي والنائب عن تحالف الوسط المنضوي ضمن القائمة العراقية وليد المحمدي في تصريح إلى "الوطن": إنجاز الانسحاب يجب أن يتم انطلاقا من الإرادة الشعبية وليس من حق أي طرف سياسي أو رسمي تعطيل ذلك، لأن العراقيين من عام 2003 تكبدوا خسائر فادحة ومازال الآلاف يقبعون في المعتقلات، فضلا عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، وإصدار قوانين جائرة طالت المواطنين بفعل قرارات انفعالية بحل الجيش واعتماد إجراءات اجتثاث حزب البعث". معربا عن اعتقاده بأن البلاد سوف تشهد أزمة سياسية في حال الاستجابة للضغوط الأميركية لإبقاء جزء من قواتها في العراق بقوله "نحن بعيدون عن سير المفاوضات والحكومة غير مستعدة لرفض الرغبة الأميركية، وستتم الموافقة على المدربين عبر إبرام مذكرة تفاهم بين الحكومة والإدارة الأميركية، وهكذا اتفاق لا يحتاج إلى مصادقة البرلمان، لكنه سيخلف أزمة سياسية لكونه يأتي بالضد من الإرادة الشعبية". ضحايا وطبقا لتقارير منظمات إنسانية عراقية فإن ضحايا العنف إبان الاحتلال الأميركي، تقدر بأعداد كبيرة جدا بين قتيل وجريح، وعلى الرغم من تحفظ الجهات الرسمية على أرقام الضحايا، ورفضها إعطاء بيانات دقيقة، إلا أنها أشارت إلى أن نسبة تدمير البنى التحتية تجاوزت 80%، وسط عجز حكومي عن إعادتها بفعل الفساد الإداري، وانعدام القوانين المشجعة للاستثمار واضطراب الملف الأمني، وبحسب المنظمات فإن أخطر ما شهدته البلاد بعد الاحتلال تصاعد العنف الطائفي عبر القتل على الهوية والتهجير القسري، ومازالت آثاره باقية حتى الآن على الرغم من تشكيل الصحوات وتسليح العشائر، وملاحقة الجماعات الإرهابية التي تتمركز في بعض المناطق غير الخاضعة لسيطرة القوات العراقية. مطالبة كردية إقليم كردستان وائتلاف قواه الممثلة في مجلس النواب، أعلن بشكل صريح وعلى لسان العديد من المسؤولين في أربيل، ونوابه في البرلمان أنه يفضل بقاء جزء من القوات الأميركية في المناطق التي تعرف بالمتنازع عليها وخاصة في محافظة كركوك لحين تطبيق المادة الدستورية 140 الخاصة بتسوية النزاع، وقال المتحدث الرسمي باسم ائتلاف الكتل الكردستانية مؤيد الطيب في حديثه إلى "الوطن": نحن نعتقد بأن القوات العراقية غير قادرة على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد لكونها بحاجة إلى مزيد من التدريب والأسلحة والمعدات الحديثة، وفاتحنا الحكومة برغبتنا في إبقاء جزء من الوحدات الأميركية تعمل ضمن القوات المشتركة في المناطق المتنازع عليها، والموقف لا يتعلق بالكرد فحسب بل هو خاضع لاتفاق عراقي موحد بخصوص ذلك". مشيرا إلى أن بعثة الأممالمتحدة في العراق أخذت على عاتقها دراسة الرغبة الكردية "وبما يضمن توفير الأمن في تلك المناطق لحين تطبيق المادة الدستورية لحل النزاع"، مستدركا أن الأطراف المشاركة في الحكومة "ليست كلها على استعداد لتطبيق المادة، الأمر الذي يعني أن هذه القضية بحاجة ماسة للحسم خشية اندلاع نزاعات محتملة في ظل غياب القوات العسكرية القادرة على فرض الأمن". مؤكدا "أن القوى الكردستانية والإقليم تفضل الانسحاب الأميركي في أقرب وقت عبر بلورة موقف موحد يضع في الحسبان ضمان استقرار الأوضاع الأمنية في سائر أنحاء البلاد، فضلا عن تسوية الخلاف السياسي القائم بين الكتل المشاركة في الحكومة". أقاليم فيدرالية شهدت الساحة العراقية مؤخرا ارتفاع الأصوات المطالبة بتشكيل أقاليم فيدرالية، وجاءت متزامنة مع بدء العد التنازلي لموعد الانسحاب الأميركي، وفي هذا السياق قال النائب عن الكتلة العراقية البيضاء كاظم الشمري "الدعوات لتشكيل أقاليم فيدرالية تنطلق من مخاوف مكونات عراقية تعتقد بأنها تعرضت للإقصاء والتهميش بعد الاحتلال الأميركي للبلاد، ومما شجعها على ذلك وجود مادة دستورية تتضمن الحق لمحافظة أو أكثر لتشكيل إقليمها الخاص على غرار إقليم كردستان الذي ثبت كيانه الخاص في إطار الدولة العراقية منذ عام 1992"، مشيرا إلى أن الدستور الحالي مازال خاضعا للتعديل ومنها ما يتعلق بإقامة الأقاليم الفيدرالية "إلا أن الانسحاب الأميركي وفي حال تحقيقه بشكل كامل شجع بعض القوى في محافظات ديالى والأنبار وصلاح الدين، على الدعوة لتشكيل أقاليم، ولم يتبلور موقف موحد بخصوص ذلك لأن هناك قوى أخرى في تلك المحافظات ترفض هذا التوجه لأنه يرسخ الاصطفاف الطائفي". السفارة الأميركية في بغداد لم تكشف بعد أية معلومات تتعلق بمرحلة ما بعد الانسحاب لكن أحد مسؤوليها أعلن استعداد قوات بلاده للبقاء في المناطق المتنازع عليها في حال تقدمت الحكومة بطلب رسمي لهذا الغرض، وبحسب النائب عن القائمة العراقية ممثل محافظة كركوك في مجلس النواب عمر الجبوري فإنه يرى أن الإبقاء على جزء من القوات الأميركية سيمرر نتيجة ضغط واشنطن ورغبة بعض القوى في إقليم كردستان "الظروف الحالية التي تمر بها المنطقة العربية وخاصة في سورية تحتم على واشنطن أن يكون لها تواجد في العراق وخاصة في المناطق المتنازع عليها، والحكومة تجري حاليا اتصالات مع الطرف الآخر من دون إطلاع الكتل السياسية على سير المفاوضات، وهذا ما يؤكد أن النتيجة ستكون الاحتفاظ بجزء من وحدات عسكرية أميركية عبر إبرام صيغة بين الطرفين لا تحتاج إلى تصويت البرلمان، علما بأن هذا التوجه يحظى بمواقفة إقليم كردستان والجهات صاحبة صناعة القرار الرسمي". قرار فردي الموقف العراقي تجاه الانسحاب بصورته الحالية وبكل تناقضاته سيخضع لعوامل إقليمية ودولية مع توقعات بأن بغداد وبالتحديد ما سيقرره زعيم ائتلاف دولة القانون سيكون هو المعتمد خارج الإرادة الشعبية والسياسية للقوى الأخرى، وفي هذا السياق قال النائب المستقل صباح الساعدي "انعدام الشراكة انعكس على اتخاذ القرار الموحد، وأعتقد بأن رئيس الحكومة وكعادته في إرضاء الجانب الأميركي سيوافق على مطالبها، لأنه ليس ملزما بمواقف الشركاء والحلفاء، ولاسيما أن أعضاء مجلس الوزراء سيوافقون على أي قرار يطرح أمامهم، من دون الرجوع إلى كتلهم، ومما يعزز ذلك غياب النظام الداخلي لمجلس الوزراء الذي ينظم عمله واتخاذ قراراته"، داعيا الكتل النيابية والأطراف المشاركة في الحكومة إلى إثبات احترمها للإرادة الشعبية "وتقف بالضد من أي قرار يتخذه المالكي للاستعانة بالمدربين، أو بقاء جزء من القوات الأميركية في بعض المناطق وتحت ذرائع شتى". ائتلاف دولة القانون أعلن وعلى لسان أعضائه في البرلمان أنه يرفض الاستعانة بالمدربين، لكن ما يجري بخصوص هذا الملف تمثل بتكليف مستشار الأمن الوطني فالح الفياض بأن يكون رئيس الوفد العراقي المفاوض مع الجانب الأميركي، وفي آخر تصريح صدر من ائتلاف المالكي أكد حاجة الحكومة إلى مدربين أميركيين لتعزيز القدرات القتالية للقوات المسلحة لكونها ستستخدم أسلحة مختلفة الأنواع سيتم استيرادها من الولاياتالمتحدة وتم تخصيص المبالغ اللازمة لتحقيق الصفقة".