يعاني بعض المواطنين بسبب ممارستهم لمهن شريفة ومهمة، ولكنها مرفوضة اجتماعيا، ويسبب لهم هذا النفور المجتمعي أذى نفسيا كبيرا، من هذه المهن مهنة تغسيل الموتى التي يرى البعض بها فألا سيئا، ويتجنب من يمارسها. تروي أم حسين (مغسلة موتى) معاناتها قائلة إن هناك من لا يقبل الأكل معها، أو الجلوس بالقرب منها، وبعضهن يرمقنها أحيانا وكأنها أقل منزلة من الجميع، ولكنها رغم ذلك تؤكد بفرح أن عملها في غسل الموتى شرف كبير، وثوابه عظيم من رب العالمين، بل هو واجب يجب أن يؤديه أحد في المجتمع. وأضافت أن عملها علّمها عدم النظر إلى متاع الدنيا، بل الوصول إلى كره هذا العالم الفاني، تقول "يرتاح ضميري بعد أداء عملي، لأنني أديت ما عليّ عمله بالشكل المطلوب". وتتذكرأم حسين أول مرة خاضت فيها تجربة غسل ميتة منذ أكثر من عشرين عاما، قائلة "كانت المتوفاة إحدى قريباتي، وهو ما أحدث لدي هزة نفسية، فانعزلت قليلا مع نفسي، وشرعت أدعو لنفسي برحمة رب العالمين، بعدها اعتدت الأمر، ولم يعد الغسيل بالشيء المؤلم، إلا عندما تكون المتوفاة شابة، فهذا يهزني من أعماقي مهما تكرر"، مشيرة إلى أنها تؤمن بأن "من ستر مؤمنا في الدنيا سترالله عليه يوم القيامة". أما أم عبد الله فبدأت العمل في تغسيل الموتى منذ عشر سنوات، تقول "لم تكن التجربة الأولى مخيفة، لكن ما تلاها كان أصعب ما واجهت، حيث أصبحت لفترة أرى كل ما تقع عليه عيناي على شكل مكان غسل الميت، أما الآن فقد اعتدت العمل، ولم يعد هناك ما يثيرالخوف، رغم أن الرهبة هي كما تزال دون تغيير". وتضيف إن "ما أثار خوفي هو موت طفلة من أقاربي في حادث مروري، فقد أثار ذلك لدي مشاعر غريبة، فلا أعلم متى أموت، ولا بأي شكل، وأخذت عبرة من موتها، فالدنيا ليست دار مقام لأحد" ، مشيرة إلى أن موت الشباب فعلا يؤلم النفس. ونظرا لأن غسل الموتى عمل دقيق وأغلب العاملين فيه هم من القدماء الذين مارسوه عن طريق التلقي ممن سبقوهم ، تقدم بعض الجهات دورات لمغسلي الموتى، يقول المدرب حسن عبد الرزاق إنه يمارس هذا العمل منذ أن كان في الحادية عشرة من العمر، ويتذكر أنه دخل لأول مرة أثناء تغسيل أحد الموتى، قائلا "دخلت غرفة تغسيل الموتى صدفة، فطردني المسؤول قائلا "لا يصح لك الدخول فأنت صغير"، فرددت عليه قائلا :" وإذا مت أنت من يغسلك إن لم أتعلم"، وبالفعل مرت السنوات لأغسّل بنفسي ذلك المسؤول". ويذكر عبد الرزاق أن دخوله هذا المجال منذ الطفولة علمه الكثير، يقول "الكثيرون يستخدمون أساليب خاطئة ، بل وقديمة منذ عهد أجداد الأجداد، وهي مغلوطة شرعا، وأغلبها في المستحبات، إلا أن بعضا من ممتهنيها يستهينون من هذه الناحية. وأضاف أن "هناك حالات تستوجب تعاملا خاصا في الغسل والكفن أيضا، خصوصا موتى الحوادث، والقتلى، والحرقى، وغيرهم ممن تكون أجسادهم متضررة، هنا تكون المهمة صعبة ومزدوجة، حيث يؤدي المغسل دورالطبيب الشرعي بخياطة الجروح والأجزاء المقطوعة" مشيرا إلى أن أصعب حالة خياطة واجهها كانت خياطة رأس شاب قطع من جسده. وعن التدريب في هذه المهنة قال عبد الرزاق إنه درب 160 شابا ، وهو عدد لا بأس به لهذه المهنة التي يرفضها كثيرون، ووجد جدية من المتدربين في التعلم، مضيفا أن كثيرين يقبلون على هذه الدورات كثقافة عامة أو للممارسة، بل ويطالب بعضهم بدورات عملية أو نظرية ليكونوا على اطلاع ومعرفة بهذا الجانب، مشيرا إلى أن الدورات طريقة لتوعية المجتمع بأهمية هذا العمل اجتماعيا ودينيا. وحول أحوال العاملين في مهنة غسل الموتى قال "الرفض الاجتماعي ليس علنيا، ولكنه موجود، خصوصا بالنسبة للنساء، ويضطر أغلبهن إلى إخفاء هوياتهن خوفا من الرفض الاجتماعي، فإحدى جاراتي لا يجلس أفراد المجتمع معها، وبعضهم لا يأكل معها، ولا يشرب من يدها شيئا بسبب عملها" مشيرا إلى أن 30% من الناس يبتعدون عن المرأة التي تمتهن غسل الموتى. وقال عبدالرزاق إن الكثيرين ينظرون لهذه المهنة على أنها من أقل المهن اجتماعيا، إلا أن الشرع يؤكد على أهمية هذا العمل، وأن يأخذ العاملون فيها المكانة التي يستحقونها، فهم يؤدون عملا مهما يجب أن يؤديه أفراد من المجتمع ليسقط عن الباقين. وأضاف أن مغسلي الموتى يتبعون البلديات التي تهتم بتوفير أماكن غسل الموتى من حيث بناؤها، ومتابعتها والاهتمام بها، إلا أن الوضع الحالي في المنطقة كما يقول هو أن الجمعيات الخيرية هي التي توفر المواد وصيانة المباني وخدمة مغاسل الموتى، ومتابعة أحوال ممارسي المهنة.