المؤثرات السعوديات قوة ناعمة عبر المنصات الرقمية    المناطق الاقتصادية الخاصة.. قفزة نوعية في جذب الاستثمارات    الولايات المتحدة تواجه تمدد الصين في عالم الجنوب    عمل إنساني تخطى الحدود    "الرياض للجولف" يحتضن أبرز البطولات العالمية للرجال والسيدات    إِلَى أَيْنَ يَسِيرُ الأَدَبُ؟!    العلي يقدم قراءات ونماذج في أدب السيرة    الصناعات الثقافية والإبداعية ومستهدفات التحول الوطني    نائب رئيس هيئة الأركان العامة يتفقد قيادة منطقة الطائف وقيادة المنطقة الغربية وقيادة منطقة المدينة المنورة    «السعودي للتنمية» يشارك في افتتاح المشروع الإسكاني بوادي السيل والقلالي في البحرين    الأخضر السعودي تحت "20 عاماً" يخسر ودية إيران .. استعداداً لكأس آسيا    البرازيلي مارسيلو يعلن اعتزاله كرة القدم    مصر: مخطط إسرائيل لتهجير الفلسطينيين كارثي ويهدد التفاوض    تفقد المرافق العدلية في الأحساء.. الصمعاني: خدمة المستفيدين أولوية    الحميدي الرخيص في ذمة الله    الأمير سعود بن عبدالله يتوّج الفرس «نجابة العز» بكأس الأمير «سعود بن محمد» للفروسية    أرتيتا : أرسنال لديه الكثير للقتال عليه في الموسم    نيمار: سأرد على جيسوس في الملعب    إحباط تهريب 30 ألف قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    3 مواجهات في انطلاق الجولة ال 19 من دوري روشن للمحترفين    أمير القصيم يستقبل مديري المجاهدين السابق والجديد    البديوي: قادة دول المجلس تؤمن أن صحة المواطن والمقيم في مقدمة الأولويات    ترمب: إسرائيل ستسلم غزة لأمريكا بعد انتهاء القتال    إنجاز عالمي لمصور سعودي على لائحة الجوائز العالمية    وزارة الرياضة تعلن فوز مصرف الإنماء بعقد استثمار حقوق تسمية ملعب مدينة الملك عبدالله الرياضية بجدة    تسارع وتيرة نمو مبيعات التجزئة في اليورو خلال ديسمبر    "هيئة الطرق": طريق "الحقو – الريث" محور مهم لربط جازان بعسير    القتل تعزيراً لمهرب الإمفيتامين في مكة    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    توقيت نومك.. يتحكم في مزاجك    مستشفى سعودي يحصد المرتبة ال 15 عالمياً ويتصدر منشآت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    الشريف والمزين يزفان محمد    2.6 مليار ريال لإنشاء محطة «رأس محيسن»    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    الرئيس الأوكراني: مستعدون للتفاوض مع بوتين    الرئيس عون يتعهد وزيارة أميركية مرتقبة لبيروت.. حراك داخلي وخارجي لتسريع تشكيل الحكومة اللبنانية    الموت يغيب الفنان صالح العويل    تراث الأحساء كنز أصيل يبهر العالم    إطلاق معرض «آرت نهيل» لدعم الحرفيين    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    رعي الحفل الختامي لمسابقة التحفيظ .. أمير الرياض: القيادة تهتم بالقرآن الكريم وحفظته والقائمين عليه    النزاهة مفهوم عصري    مفتي عام المملكة يستقبل المشرف على وحدة التوعية الفكرية بجامعة الملك فيصل    الرديني يحتفل بعقد قران نجله ساهر    آدم ينير منزل شريف    «الصحة»: إحالة مدعي الطب البديل لجهات الاختصاص لمحاسبته    رفقاً بمحاربي السرطان    قاعدة: الأصل براءة الذمة    معادلة السعودية «الذهبية»    التأسيس عز وفخر    مركز القرار.. السياسة الإنسانية الحصيفة تنشر السلام    صفحة بيت    أمر ملكي يعزز النزاهة ويعيد المال العام    إقامة ورشة عمل حول " توسيع أفق بحوث العلاج في أمراض الروماتيزم " الملتقى العلمي الدولي ٢٠٢٥    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    بقعة زيت قلبت سيارتها 4 مرات.. نجاة ابنة المنتصر بالله من الموت    الرئيس السوري أحمد الشرع يغادر جدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العابس يبتسم
نشر في الحياة يوم 06 - 06 - 2012

سيطر عليه الاختفاء المفاجئ للصامت الحزين وجعله يشعر بانقباض الفأل السيئ، الذي يستشعره في رفة جناح غراب فوق نهر أو صرخة بومة استوطنت مئذنة أو عواء كلب رأى ملاك الموت في جوف الليل.
رجل نحيف إلى حد التلاشي داخل جلباب متعرق مدعوك، ويمكن عيناً عابرة أن ترى عبوسه تعالياً وربما ضجراً. لكن سر صمته وعبوسه لا يمكن أن تدركه عين. ربما عاش في البرج حتى نسي الكلام، ربما تكلس حزنه كتربة صخرية لا تستطيع نبتة ابتسامة هشة أن تشقها.
ربما يستطيع طارئ تعرض للخديعة أن يرى في وجه الطارئ الصامت حسرة عاقل وجد نفسه نزيل مصحة عقلية بمؤامرة. وبالنسبة الى من لم يواجه خسّة الغدر ويعول على فتور الاعتياد، لا بد من أن يبدو هدوء الرجل وكأنه سكينة راهب أمضى أعواماً من العزلة في قلايته، وتدرب بإخلاص على إماتة مشاعره الدنيوية.
كان متجاهلاً كل ما حوله، لا يفتر ثغره عن إشارة شكر عندما يرفع النُدل من أمامه فناجين القهوة الفارغة أو عندما يضعون أخرى ممتلئة، لا يهتز له رمش لعبور جسد ما، سواء كانت المؤخرة المنسحبة من أمامه مستقيمة عجفاء أو في كامل بهاء التقوس الأنثوي. يتجاهل حتى الكرسي، يجلس عليه في وضع القرفصاء، وكأنه يستعيد صلته مع أمه الأرض رافضاً الاعتراف بوساطة الخشب.
له طاولة محددة، يجلس إليها بزاوية تأخذ بنظرته إلى البحر عبر زجاج الواجهة. يصل مبكراً ولا يغادر المطعم إلى غرفته إلا عندما يبدأ النُدل في تبديل المفارش استعداداً للوجبة التالية. لا يأكل قط ولا يكف عن التدخين وشرب القهوة التركية.
يشترك الرجل الصامت مع المفاوضين في سمرة اللون وبياض الجلباب، لكنه لا يتحدث مع أي منهم، ولا يدع جملة طائشة من مائدة أو أخرى تستدرجه إلى حوار.
لم يعرف لم ينشغل به إلى هذا الحد، على رغم أنه لم يبد أي استعداد للتواصل. حتى إيماءات التحية التي كان يوجهها إليه بدافع اللياقة عندما تتعثر نظراتهما ببعضها بعضاً، لم يكن يكلف نفسه عناء الرد عليها.
بقليل من التحامل تستطيع العين أن تجرد النحيف من حياده وأن تضعه في مكان أقرب إلى العدوانية. وكان من المنطقي أن يجلب غيابه الارتياح، لكنه أحس بوحشة حقيقية لغياب الرجل الغامض.
- هرمت.
فكر، للمرة الأولى في مأزق العمر الذي لطالما تحاشاه، حتى عندما يفسح له طارئ آخر لعبور باب، كان يتجاهل المجاملة التي يراها إشارة سمجة إلى عمره، ولا يكف عن عقد مقارنة في الحيوية بينه وبين المجامل منتصراً لنفسه. لكن قلقه لغياب ذلك الوجه المتحدي جعله يوقن أنه لم يعد على استعداد لتحمل أي تغيير، وهذه علامة مؤكدة على التقدم في السن.
هشاشة الخوف من المجهول التي تدفع ملايين الرجال والنساء إلى تحمل شريك سيئ حتى آخر العمر، هي نفسها التي دفعته إلى التخلي عن كل تسلياته المعتادة وتكثيف كل فضوله من أجل البحث عن الرجل الصامت. ولم تكن مهمة سهلة في ظل الزحام الشديد منذ وصول المفاوضين الجدد. هم من الكثرة بحيث صارت الأجساد على طاولة عرض الطعام كتلاً متلاصقة، والتفرس في الوجوه يحتاج إلى وقاحة لا يمتلكها، ويحتاج إلى تسامح لا يمكن إنساناً أن يمنحه لغريب يتأمله باستغراق مريب في لحظة اختيار طعامه. الصعوبة ذاتها واجهها كلما حاول التفرس في وجه من الوجوه على الموائد المشغولة بالكامل طوال ساعات النهار ومعظم الليل، في المصاعد المختنقة، وفي الممرات.
- أنا وهو فقط نطلب القهوة التركية!
ابتسم لهذا الإلهام، وأدرك كم طالت إقامته في البرج. الطارئ الجديد يستسلم للضيافة العامة، يبتهج بدورق القهوة الأميركية البليدة، يموه باللبن شياط طعمها. ويلزمه الكثير من الوقت قبل أن يبدأ في اكتشاف إمكانية تسامح البرج مع أنواع التمرد الصغيرة، مثل رفض قهوة اللاأحد، والإصرار على فنجان قهوة أقرب إلى الطعم الغافي في ذاكرة لسانه.
- وجدتها!
صاح بعد أن قرأ الحل مسطوراً على سقف غرفته. بدأ في الصباح تتبع حركة الندل مترقباً ظهور صينية تحمل كنكة قهوة مع فنجانها الصغير. ونجحت الخطة! لم ينته ذلك اليوم حتى رأى صينية تحط على مائدة أمام واحد من المفاوضين، له ملامح الرجل الصامت. تهلل الطارئ للاكتشاف، لكن البهجة التي شقت قلبه لم تدم سوى ثانية واحدة؛ لأن ما أثبتته الملامح نفاه مرح الرجل وصخب صوته والبدلة الأنيقة التي يرتديها والشريط الأحمر الذي تتدلى منه بطاقة مؤتمر.
- المفاوضون السمر يتشابهون.
همس لنفسه بكل ما ولد في رأسه من إحباط، وأنصت إلى الرجل الصاخب في محاولة أخيرة، لكنه تذكر أنه لم يسمع صوته من قبل. قام إلى طاولة العرض ليجلب شيئاً لا يحتاجه إلا كسبب للمرور بين المفاوضين، مشّط الجالسين بعينيه في الذهاب والإياب، ولم يجد ما يؤكد أو ينفي هوية المفاوض.
عاد إلى طاولته من دون أن يتخلى عن تصميمه. أطالوا قعودهم فأطال. تسحب بنظرته يتفحصه. ومن دون أن يتعمد المفاوض مساعدته، نفض خفه ورفع قدميه جالساً القرفصاء على الكرسي، بينما ينفض سيجارته بمرح في الفنجان الفارغ.
- انه هو!
أبهجه الاكتشاف. وعلى مدى أيام المؤتمر صارت لديه تسلية جديدة، يبدأ اللعبة بتجاهل المفاوض النحيف إلى حد تضييعه بين المفاوضين، ثم يشرع في البحث عنه. يرهف سمعه لصوته المجلجل، ويخزنه في ذاكرته كعلامة فارقة جديدة. حفظ الكثير مما قاله مثلما يحتفظ الناس بالكثير من الأشياء التي لن يحتاجوا إليها أبداً.
مضت أيام المؤتمر سراعاً وانتهت بليلة صاخبة من المصافحات وتبادل العناوين على موائد العشاء. وفي الصباح كان الزحام أخف، من دون أن يعود المطعم إلى هدوئه القديم. تبقى بعض المفاوضين الجدد الذين ارتبطوا بعلاقات مصاهرة مع المفاوضين القدامى، وكان في وسعه أن يتنشق رائحة الطزاجة في هشيم الكلمات الذي يصل إلى أذنيه، بينما عاد الرجل النحيف إلى القرفصة أمام طاولته المنعزلة وحيداً صامتاً في جلبابه المتعرق.
(فصل من رواية قيد الصدور)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.