لم يعد يصح عزل الأحداث التي تشهدها دول الجوار عن مجريات الصراع السوري، والأمر لا يتعلق بتنفيذ تهديدات أطلقها أهل السلطة عن إشعال المنطقة برمتها، ولا بمؤامرة مزعومة تديرها أصابع أجنبية غرضها إعادة رسم الخرائط وفق تراتب جديد للمصالح والأوزان، ولا يتعلق باقتراب موعد مؤتمر «جنيف 2» وسعي بعض الأطراف إلى وقائع جديدة تعزز خياراتها وأوراقها التفاوضية، بل بتفاعلات وارتدادات لصراع دموي عنيف طال زمنه وانحدر من حقيقته السياسية الوطنية إلى أكثر أشكاله تخلفاً، أي إلى صراع مذهبي واثني امتد إلى دول تتشابه مكوناتها المجتمعية، وانحازت جماعاتها العرقية والطائفية في شكل سافر، إلى مثيلاتها في سورية. لبنان يبدو لبنانين، والهدنة الهشة التي تلطّت وراء سياسة النأي بالنفس سقطت سقوطاً حراً بعد الدخول الصريح والكثيف ل «حزب الله» في الصراع السوري، لتعود الى التداول مصطلحات أيام زمان عن الترابط المصيري بين البلدين، ولتظهر الاصطفافات السياسية والشعبية جراء الموقف من الصراع السوري كأنها استمرار للاصطفافات جراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، متوسلة هذه المرة رهانات وجودية، معلنة أو مضمرة، على نتائج الأحداث في دمشق. والمشهد تظاهرات متعارضة سيرتها الانقسامات اللبنانية منذ انطلاق الثورة السورية دعماً لها أو دعماً للنظام، وقوى اسلامية تنامى دورها السياسي والعسكري كنصير لبعض أطراف المعارضة وكرد على موقف «حزب الله»، أوضح محطاتها المواجهات مع جماعة الأسير في صيدا، والنار المستعرة في طرابلس، ناهيكم عن الفرز السياسي الخبيث في التعاطي مع قضية إنسانية عنوانها اللاجئون السوريون، والذي وصل عند بعضهم إلى التشجيع على نبذهم باعتبارهم وسيلة لتغيير التركيب السكاني في البلاد. ونضيف التعطيل المتعمد لأهم مؤسسات الدولة في لبنان وفي مقدمها تشكيل حكومة جديدة تحسباً من نتائج وقرارات قد تحد من دور حلفاء النظام وتحاصر مواقفهم، وصولاً إلى عودة العمليات الإرهابية بصورها الأبشع، كتواتر التفجيرات الانتحارية والاغتيالات لأسباب سياسية ومذهبية. ينتقل التوتر الطائفي في العراق على خلفية الحدث السوري إلى طور جديد من أطوار المواجهات السياسية والعسكرية، وتبدو الاصطفافات القومية والمذهبية في غاية الوضوح، فبارزاني يرعى كرئيس لإقليم كردستان العراق، تنامي الحضور الفاعل لأكراد سورية، ساعياً إلى رأب الصدع بين المجلس الوطني وحزب الاتحاد الديموقراطي، وبناء توافقات تنسجم مع الأفق المتاح موضوعياً لتطور النضال الكردي، بينما لا يخفي العراقيون السنّة، لا سيما في الغرب الأقرب إلى سورية، تعاطفهم مع الثورة، بل يقدمون ما يمكنهم من دعم لقوى المعارضة على الجانب الآخر من الحدود، في حين تحاول حكومة المالكي محاصرة ذلك بشتى الوسائل، بذريعة أنه يساهم في حقن التوترات الطائفية في العراق وحفز دور تنظيم «القاعدة». وقد تتوج الأمر بعمليات عسكرية واسعة لفض الاعتصامات ومحاصرة الفلوجة والأنبار، وكان العنوان مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بالاستفادة من الصورة المنبوذة شعبياً لهذا التنظيم ومن المعارك التي فتحت على الأرض السورية بينه وبين فصائل «الجيش الحر». ويكتمل المشهد بمسارعة الصحوات العشائرية الى مواجهة هذا التنظيم لعلها تسحب الذريعة التي تحاول حكومة بغداد استخدامها لتشديد عنفها وتسويغه. الحديث عن مشكلات أردوغان يعني الحديث عن تبعات الانخراط التركي في الحدث السوري وتداعياته على التفاعلات الطائفية والعرقية، ويبدو أن حكومة أنقرة كالمعارضة السورية بدأت تدفع ثمن تلكؤ المجتمع الدولي في اتخاذ موقف حاسم من الصراع الدائر، وتحاول من خلال فتح بوابة التوافق مع إيران تخفيف هذه التداعيات، إن من ازمة الثقة العامة التي بدأت تطاول حزب «العدالة والتنمية» ربطاً بالتحقيقات مع بعض قادته بتهم الفساد، وإن من تنامي حضور المعارضة... مرة الكردية التي تطالب بحكم ذاتي وباتت تستمد العون من سيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي على معظم قرى وبلدات الشريط الحدودي، ومرة التركية... التي تنضوي في صفوفها أقلية علوية تقارب العشرين مليوناً، ودأبت على مقاومة مساعي أردوغان المتدرجة لأسلمة المجتمع، وتتحسب من الدعم الذي يقدمه للثورة السورية ووصول حكومة قريبة من نهجه إلى السلطة في سورية. يئن الأردن تحت وطأة الحدث السوري، من مئات ألوف اللاجئين وما يخلفونه من أعباء اقتصادية واجتماعية تزيدها حدة سهولة اندماج عشرات الألوف من الفلسطينيين السوريين في المجتمع، وكانوا لجأوا الى الأردن بعد تفجر معارك مخيم اليرموك قرب دمشق، وأيضاً القلق من التحرشات العسكرية لقوات النظام وتهديداته المبطنة لعمّان التي يعتقد بأنها تمرّر السلاح للمعارضين وتوفر ملاذاً للعديد من المنشقين العسكريين ومراكز تدريب لهم. ويبقى الأهم خوف المملكة من دور العنف السوري المنفلت واستفزازاته الطائفية في شحذ همم الأصولية والتيارات الجهادية وحفز قدرتها على التعبئة، ما قد يورثها مشكلات كبيرة، بخاصة مع قيام «إمارات» إسلامية على حدودها، أو تحول الدولة السورية إلى دولة فاشلة. تبدو إسرائيل الرابح الأكبر من الصراع السوري، ليس فقط لأنها ضمنت نزع السلاح الكيماوي وخراباً ودماراً سيشغلان السوريين عنها لعقود، أو لأنها باتت مطلقة اليدين في تدمير أي هدف عسكري تعتقد بأنه يهدد أمنها، بل لأنها مطمئنة تماماً إلى عجز النظام وحلفائه عن إتباع سياسة الهروب إلى أمام، إذ وصلت درجة الاستنزاف لما يسمى محور الممانعة والمقاومة حداً من الضعف لا يسمح له بافتعال حرب لتصدير أزمته، فكيف وقد فقد صدقيته الوطنية وتعرت مصالحه الضيقة وحسابات التسلط والنفوذ الإقليمي. يبقى الأهم وهو ارتدادات الصراع السوري على الهوية الوطنية المهددة بانقسامات طائفية حادة في هذه البلدان، وأيضاً على مصير اللاجئين الذين باتوا يتخوفون من تأثير هذه الارتدادات في أوضاعهم البائسة، بخاصة أنهم رأوا بأم أعينهم ما أملته التطورات السياسية في مصر على شروط حياة أمثالهم.