يجمع الباحثون على الدور الريادي التاريخي لمكةالمكرمة، منذ أقدم العصور، وهو الدور الذي تعزز بعد الإسلام. وفي العصر الحديث ظهرت مئات الأبحاث التي تناولت أثر مكة والحج في نهضة عدد من الشعوب الإسلامية، وسعيها للتحرر من قوى الاستعمار ومقاومته، ذاهبين إلى أن الحركات التحريرية والنهضة العلمية والبعث الإسلامي استمدت عونا من العلماء الذين كانوا يعيشون في مكة، والذين يستنهضون الشعوب خلال الحج في مكةالمكرمة التي ضمت أعدادا كبيرة من العلماء الذين كانوا يتلقون العلوم الشرعية والفقهية في الحرم المكي لنيل الإجازة في العلوم الدينية من علماء مكة التي هي منتهى أمل جميع علماء المسلمين. الكيراونوي نموذج هندي مثلت مكةالمكرمة ملاذا للعلماء الهنود، يحميهم من بطش الإنجليز الذين سعوا إلى القضاء على العلماء المسلمين في الهند عن طريق السجن أو النفي أو القتل، ومن أبرز هؤلاء العلماء "رحمة الله الكيراونوي" (1818-1891) الذي قضى في مكة أكثر من نصف عمره، شهدت أهم نتاجه الفكري الذي ترك أثرا ليس فقط على العالم الإسلامي بل على أوروبا. انشغل الكيراونوي في مكة بالتدريس وتربية جيل من المتعلمين، وألف خلال هجرته لمكة أهم كتبه وهو كتاب "إظهار الحق". ودرس على يديه في حلقته التدريسية بالحرم شخصيات مهمة، يذكر الباحثون منها: "الشريف حسين بن علي مؤسس الدولة الهاشمية بالحجاز، ومفتي الحنفية وشيخ العلماء بمكة ورئيس مجلس الوزراء بالدولة الهاشمية قاضي القضاة الشيخ عبدالله سراج، ومؤسس مدرسة مظهر العلوم بكراتشي العلامة الشيخ أحمد الدين جكوالي، والمدرس بالمسجد الحرام وشيخ الخطباء والعلماء العلامة الشيخ أحمد أبوالخير مرداد، والمدرس والإمام والخطيب بالمسجد الحرام ونائب رئيس محكمة مكة أمين محمد علي مرداد". كان وجود الكيراونوي في مكة دافعا له ليؤسس المدرسة الصولتية، بعد أن أشار على السيدة "صولة النساء"، بأن توجه تبرعاتها لتأسيس هذه المدرسة، كأول مدرسة نظامية في مكةالمكرمة، التي لم يكن فيها نظام للتدريس إلا في المسجد الحرام وفي بعض الكتاتيب. واستمرت الصولتية تخرج طلابا صاروا فيما بعد علماء كبارا، مما جعل الملك عبدالعزيز -يرحمه الله - يقول عنها حين زارها في 28 جمادى الآخرة سنة 1344، يرافقه الشيخ محمد نصيف، ويوسف ياسين: "إن الصولتية هي أزهر بلادي". قصة التأسيس يروي الباحث الدكتور سمير إبراهيم أنه في عام 1289 قدمت السيدة "صولة النساء بيغم"، من كلكتا بالهند لأداء مناسك الحج، وكان في نيتها تأسيس رباط في مكة لخدمة الحجيج، ووجدت أن الشيخ رحمه الله هو الشخص المناسب ليشرف على المشروع الخيري، وتوصلت إليه عن طريق زوج ابنتها الذي كان يحضر دروس الشيخ، وحين استشارته في أمر تأسيس الرباط، أشار عليها بتأسيس مدرسة، لأن مكة فيها كثير من الأربطة، وأن أبناء مكة بحاجة ماسة إلى مدرسة، فوافقت. اشترى رحمه الله قطعة أرض في الخندريسة، وبدأ البناء لأول مدرسة دينية على النظام الحديث في الحجاز، وافتتحت عام 1292، في حفل كبير ضم علماء مكة وأعيانها، ورفض الشيخ أن يطلق اسمه على المدرسة، ورأى أن يطلق عليها اسم الصولتية، إكراما للسيدة المحسنة صولة النساء بيغم. التأثير في الجزر الشرقية أواخر القرن التاسع عشر، كان يفد إلى الديار المقدسة عدد كبير من الإندونيسيين لأداء فريضة الحج، وكانوا يشكلون نسبة كبيرة من بين القادمين من مختلف أقطار العالم الإسلامي، نظرا للرغبة الشديدة في أداء هذا النسك، ولأسباب عديدة تجعل تسمية الإنسان الإندونيسي بالحاج رنينا خاصا. يذكر محمد السرياني ومعراج مرزا في بحثهما عن "أثر الحج في حركات الاستقلال الإندونيسية - دروس من رحلة سنوك هورخرونية الشهيرة إلى مكة، أن "المسافة كانت بعيدة بين الجزيرة العربية وجزر الهندالشرقية، قبل وجود السفن البخارية، وشكل طول المسافة عائقا أمام حركة الحج، الذي كان يترك أثرا في أمرين مهمين، الأول هو تكون جالية إندونيسية كبيرة في مكةالمكرمة، والثاني التأثيرات الدينية والسياسية للحج على العائدين إلى إندونيسيا، وقد أثر هذان العاملان معا في إذكاء الثورة ضد المستعمر الهولندي. يقول هورخرونية في تقريره "إن الانتعاش الروحي الذي تلقاه سكان إندونيسيا بطرق طويلة أو قصيرة مصدره مكة، ففيها يعيش الكثير من علماء إندونيسيا ممن ألقوا بأنفسهم في منبع الحياة الإسلامية، وهم على صلة مستمرة مع الوطن الأم".