هنا في إسطنبول، عدت اليوم لمقر سكني متعبة عقب رحلة يوم كامل استغرقت تسع ساعات مشيا على الإقدام.. أصعد شارعا وأنزل آخر.. أطوف أزقة وأحياء هذه المدينة العتيقة الجميلة. عدت لأخلد إلى النوم.. نظرت من النافذة.. شارع يعج بالدخان ورائحة المعسل والخمور.. مكتظ بالشباب والشياب. أغلقت النافذة.. وقبل النوم نثرت شيئا من رائحة العود عل رائحته تكسر عفن الدخان.. ثم استرجعت صور يومي كله في ذاكرتي.. فاختلطت صور الجبال وارتفاع الأحياء التي رأيتها بتلك التي وجدتها في رحلة أخرى قبل هذه الرحلة وفي منطقة لم أعش فيها ولا أملك منها شيئا سوى حكايات المسنين وشيء مما يرويه لنا التاريخ. ما دفعني للضغط على محرك البحث لأشاهد مقاطع فيديو لهذه المنطقة (رجال ألمع) جنوب السعودية. الناس في تلك الجبال كانوا يختلفون عن هؤلاء في بعض الأمور ويتقاطعون معهم في أمور أخرى كثيرة. الكل يشقى لطلب الرزق وتطويع الطبيعة (الجميلة القاسية) لصالحهم وفقا لما تسمح به إمكاناتهم.. إلا أن شيئا من ليل إسطنبول يستمر في غيبوبة السكر حتى النهار ليمنح أصحابه نعمة النسيان من قسوة الحياة وضيق الرزق.. فيما كان الناس في جبال ألمع -كما تروي الحكايات- يمنحون الليل حقه في الراحة والسبات مشبعة بطونهم بما صنعته أنامل أمهاتهم من خبز التنور الدافئ المصنوع من حبوب تلك الجبال. لست بحكاية هذا الليل في وضع تنظير أو مقارنة بين بلدين.. ولكن هكذا اختلطت لدي الذكريات والمشاعر تلك الليلة، وبقيت أفكر في (اختلاف الشعوب حول مفهوم السعادة) بغض النظر عن صحتها من عدمه، ولكن النتيجة التي توصلت لها وأكاد أجزم بيقينها؛ أن استخدام ما تنتجه الطبيعة بطريقة خاطئة وبيد الإنسان نفسه، قد تجلب له "سعادة موقتة" يعقبها ألم دائم. فشتان بين حب الشعير الذي يخبز طازجا في التنور ليؤكل قبل النوم ليملأ الجسد عافية وبين الحب نفسه حين يخمر ليخرج العفن ويذهب طعمه ولونه، مخلفا ما كلما زادت نسبته زاد أثره على العقل والجسد. لا شك أن لكل بقعة في الأرض حكايات جميلة.. فليل إسطنبول يحمل كثيرا من الجمال والحضارة وكذلك يحمل ليل ألمع. العبرة بفلسفة مفهوم السعادة واختلافها بين شعوب الأرض.. السعادة إن لم تنبع من دواخلنا فلن يجلبها لنا الخمر والغانيات.. فلنبحث عن السعادة في دواخلنا.. أين تكمن؟ وهل ما يفعله هؤلاء وأولئك هروب من واقع مؤلم يحاولون نسيانه؟ ..لا أعلم.. من الطبيعي أن يختلف مفهوم السعادة بين البشر ولكن ليس من الطبيعي أن نجد السعادة في الضرر بأنفسنا أو الضرر بغيرنا. ولا عجب أن نجد هناك أيضا من يجد السعادة في تجريح الآخرين والتقليل من قيمتهم وغيرها كثير من مشاهد السعادة المعتلة. وقد يكون هذا المشهد وذاك ناتجا عن ضعف إرادة أو علة نفسية قلبت موازين الفرح والسعادة. أخيرا.. آمل أن تملأ السعادة أرواحنا. فالحياة رحلة واحدة بها نسعد أو نزدد شقاء. تحية لإسطنبول أرض الحضارة والتاريخ والجمال.. وتحية لجبال ألمع الخضراء التي لا تفتأ تعانق السحب حتى في موسم القيظ والجفاف.