كان الموعد في مقهى مجاور للمسجد وقال لي: إن وصلت قبلي فستجد نخبة من القوم قد سبقوك، وكنت كعادتي عندما أكون في غير بلدي أخرج لصلاة الجمعة بالزي السعودي إلا أنني حاسر الرأس حافي القدمين. تفقدت صديقي ولم أجد غير النخبة؛ مجموعة يرتدون بدلات إيطالية أنيقة وربطات عنق فرنسية مميزة وينفثون بدخان السيجار الكوبي الفاخر مع كل رشفة من فنجان القهوة التركية الزكية. كان الحوار عن الدستور والدولة المدنية والتي تقوم على المساواة بين المواطنين والمشاركة السياسية ووجود مجتمع مدني فاعل من خارج أجهزة السلطة، وعندما أردت إثبات ذاتي أمام هؤلاء الجهابذة وطلبت الإذن بالكلمة فإذا بأحدهم ينقض علي انقضاض الوحش الكاسر على الفريسة ويخاطبني بلهجةٍ حادةٍ تخلو من الأدب والذوق وغيرهما من الصفات الحميدة والمعاني الجميلة والتي يتحلى بها مجتمعهم، وقال على الفور: أنتم آخر من يتحدث أو حتى بالمشاركة في هذا الموضوع! ألم تكن دولتكم منذ قيامها وحتى 1996 في حالة فراغ دستوري دائم، يمارس فيها الحاكم صلاحيات واسعة وسلطات مطلقة دون نص دستوري يقيدها أو ينظم به علاقته مع شعبه، أو يرسم بوضوح شكل مؤسسات الدولة وعلاقة بعضها ببعض، وعندما عزم أحد أفراد العائلة الحاكمة على صياغة برنامج لملكية دستورية عام 1967، وقد كانت بحق خطوة نحو تأسيس حكمٍ دستوري في البلاد أفشلتموه ووقفتم عائقاً أمامه؟ ثم أي دستور هذا الذي يمنحه الحاكم دون أن يشرك الشعب في صياغته أو يستفتى بشأنه؟ قاطعته قائلاً: على رسلك يا أستاذ -ولم أكن أعرف اسمه- هذا كلام عارٍ عن الصحة ومليء بالمغالطات التاريخية وكذلك السياسية ولا يمت للواقع بصلة، لكنه لم يدعني أكمل حتى قال وبضحكة بها شيء من السخرية والاستهزاء: هل مر بك هذا الكتاب إن كنت تقرأ يا هذا أصلاً؟! وقذف به نحوي حتى كاد أن يصيبني في رأسي ويسبب لي عاهةً فكرية أكثر مما هي عليه. أمسكت بغلاف الكتاب بيدٍ مرتعشة ليفاجئني عنوانه "التجربة الدستورية في ....، للكاتبة بسمة مبارك سعيد، فما كان مني إلا أن استلقيت على قفاي ومددت رجلي وأخذت نفساً عميقاً وأشرت بإصبعي وقلت: اخفض رأسك وأعرف من تكلم، فأمامك سعودي ولا فخر، وإذ بصديقي من خلفي يقاطعني ويعتذر منهم ويقول: أنت هنا ونحن ننتظرك في المقهى الآخر منذ ما يقارب الساعة!