"حزب الأمة" يطلق حملة لجمع التواقيع لإبعاد البشير عن الحكم خلافات عميقة تعتري المعارضة السودانية، تتفاوت ما بين الضعف التنظيمي الذي تعاني منه الأحزاب التقليدية، الأمة والاتحادي، وعدم تجاوب الشعب السوداني مع الأحزاب اليسارية، الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي، بسبب تأصل المكون الديني وسط الشعب، إضافة إلى عدم شعبية حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه العراب السابق للنظام الحالي حسن الترابي، وتحميل غالبية الشعب لهذا الحزب وزر تمكين الحكومة الحالية والتخطيط للانقلاب العسكري الذي أتى بها عام 1989، وقد استفاد حزب المؤتمر الوطني الحاكم من هذا التفاوت والتشرذم اللذين تعاني منهما أحزاب المعارضة، وسعى لترسيخها وزرع الفتن والمؤامرات وسط مكوناتها. ورغم الضغوظ الدولية التي مورست وما تزال تمارس على الحكومة السودانية من المجتمع الدولي، والتي تفاوتت ما بين العقوبات السياسية والاقتصادية، والمشكلات التي وقعت فيها الخرطوم مع معظم دول الجوار، بدءا من تشاد وإثيوبيا وإريتريا وأوغندا سابقا، والحروب التي تخوضها الحكومة في معظم مناطق السودان الطرفية والحدودية، مع حركات دارفور المتمردة ومع متمردي الجبهة الثورية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، والتوترات على حدودها الجنوبية مع الجارة الجديدة في دولة الجنوب، والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها السواد الأعظم من سكان البلاد للدرجة التي جعلت من حياة المواطنين جحيما لا يطاق في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، الذي بات كابوسا جاثما على قلوب المواطنين، ومع استشراء الفساد المالي والسياسي، إلا أن المعارضة السودانية فشلت في استثمار كل هذه الظروف التي كان يمكن أن تعينها على تحقيق هدفها الرئيس المتمثل في الإطاحة بالحكومة. اختلاف الرؤى ويعزو البعض الاختلاف وسط مكونات المعارضة إلى اختلاف الرؤى حول كيفية إسقاط النظام تارة، وحول شكل الحكم الجديد الذي يجب أن يسود بعد انهيار النظام الحالي. ومن المفارقات أن النظام الحاكم في الخرطوم استطاع أن يحول معاناته وحروبه المتعددة إلى نعمة استفاد منها، وبذلك انطبق عليه المثل الشهير "رب ضارة نافعة"، وذلك بإحجام بعض قوى المعارضة عن الدخول في مواجهة عسكرية معه، رغم ما يعانيه الجيش من إرهاق بسبب تكرار الحروب والمعارك، وذلك خشية أن تتفتت البلاد وتدخل في نفق الحروب الأهلية. وفي هذا الإطار كان رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي، الذي أطاح به انقلاب البشير، قد حذر مما سماه "ثورة الهامش"، قائلا إنه إذا نجحت الحركات المسلحة في إزاحة النظام الحاكم، فإن فيضان الدم قد يبتلع كل ما يواجهه، مشيرا إلى وجود مرارات قديمة وخلافات قبلية وسط مكونات الشعب التي ترى أن النخبة في الشمال قد استأثرت بالسلطة والثروة مقابل تهميش المناطق الحدودية والطرفية. وكثيرا ما وقف الصادق الذي تصفه بعض الدوائر الممسكة بمفاتيح القرار السياسي بالعدو العاقل، ضد مخططات بعض مكونات المعارضة التي سعت لتنظيم مواجهات مسلحة مع الحكومة. خطة وخيارات وفيما حدد حزب الأمة الأحد المقبل موعدا لتدشين حملته لجمع التواقيع لإسقاط النظام، سبقه طرح تحالف قوى الإجماع الوطني، الذي يضم أحزاب المعارضة خطة لإسقاط النظام خلال 100 يوم، ورغم الغموض الذي شاب هذه الخطة، وغياب تفاصيلها العامة، إلا أن التحالف أكد تمسكه بالنهج السلمي الديموقراطي في تغيير النظام، ولوح باللجوء الي خيارات سياسية غير عسكرية، من بينها العمل السري وتعبئة الشارع حال أصر النظام على إعاقة فعاليات المعارضة في إطار خطة المئة يوم، وحملت قوى الإجماع المؤتمر الوطني والحكومة مسؤولية أي تفلتات أمنية يمكن أن تنجم عن ملاحقة رموزه والتضييق على نشاطهم. وقال عضو هيئة التحالف ضياء الدين محمد في مؤتمر صحفي بدار حزب المؤتمر الشعبي: "لا شيء يمكن أن يخفينا أو يعيقنا عن تنفيذ الخطة"، مؤكدا استعداد قادة التحالف لأي مواجهات مع النظام. وأشار إلى أن خطة ال 100 يوم هي عبارة عن حملة لاستنهاض العمل السياسي والقوى الجماهيرية وتعبئة الشارع للتغيير الديموقراطي، وليس القصد منها التغيير خلال 100 يوم. من جانبه، اعتبر عضو التحالف كمال عمر ربط الحكومة ما بين برنامج الجبهة الثورية وخطة المئة يوم، مؤشرا على أن النظام يضع سيناريو لاعتقال قيادات التحالف. ورأى أن النظام آيل للسقوط، ويمكن أن يذهب في 30 يوما وليس 100 يوم، وحمل عمر الحكومة مسؤولية بنية الدولة. وأشار إلى أن خطة إسقاط النظام ماضية، وقال: "لن ننتظر أحدا ولن نلتفت لأي متخلف"، وتعجب من تصريحات رئيس حزب الأمة الصادق المهدي، التي تبرأ منها من خطة المئة يوم، وقال إن الخطة كانت وصفة من داخل مطبخ الحزب، وإن "الأمة" عضو في لجان التحالف كافة، بجانب مشاركة شباب الحزب في ندوات التحالف، فضلا عن توقيعه وثيقة البديل الديموقراطي التي حددت خيارات التعامل مع النظام ما بين الإسقاط أو التغيير. تشدد وعنصرية وكان رئيس التحالف فاروق أبوعيسي، قد أعلن في تصريحات صحفية أن الهيئة عقدت اجتماعا مهما خلال الفترة الماضية في دار حزب الأمة، وأن الجميع اتفق على أن إسقاط النظام أصبح ملحا اليوم قبل الغد. وأضاف: "النظام فشل في كل مناحي الحياة، وفي إدارة البلاد، والاحتياجات المعيشية للمواطن أصبحت بعيدة المنال. لذلك لا بد أن يذهب اليوم قبل الغد؛ لأن استمراره يهدد بتفتت البلاد وضياع ما تبقى منها". وأوضح أن الحكومة "أصبحت ترفع رايات التشدد الديني ونشر العنصرية. وأخلت بالتوازن في العمل الدبلوماسي بالتحالف مع دولة مثل إيران، مما يضر بمصالح البلاد وبأمنها القومي ويضر بالأمن العربي وساحل البحر الأحمر"، مشيرا إلى أن القوى السياسية كافة اتفقت على إسقاط النظام. وأن جميع قادة المعارضة قد عقدوا العزم على الخروج في مقدمة المظاهرات الجماهيرية. وحول دعوة مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع، المعارضة لإجراء حوار مع النظام حول الضائقة الاقتصادية، نفى أبوعيسى بشدة وجود أي اتجاه للحوار مع الحكومة دون شروط المعارضة. وقال لن نتحاور مع النظام قبل إنهاء انفراد حكم الحزب الواحد وغياب الحريات العامة والصحفية، ولا بد من الدعوة إلى مؤتمر قومي دستوري وتصفية النظام. خلاف شكلي ويبدي كثير من مكونات المعارضة استغرابها من موقف زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، الذي كان كثيرون يعولون على مواقفه الوطنية، وقوة حزبه في قيادة المعارضة وتحقيق رغباتها، إلا أنه أظهر ميلا كثيرا خلال الفترة الأخيرة لمهادنة النظام ومحاورته، ودعا إلى "تغيير" النظام، بينما تمسك الآخرون بإسقاطه. ويعزو البعض هذا الموقف إلى رغبة المهدي في قيادة المعارضة وتحفظه على توجهات بعض مكوناتها، ودعوته إلى تمثيل الأحزاب بحسب مكوناتها وثقلها الجماهيري. وبالعودة إلى علاقة حزب الأمة بأحزاب التحالف، نجد أن هناك اختلافات أساسية بين الجانبين، ومرارات تاريخية وصلت حد وصف المهدي للمعارضة بالعجز والفشل، مما دعا بعض قادة الأحزاب إلى محاسبة المهدي كما فعل حزب "البعث"، وهو ما لم يتم؛ لأن بعض قيادات التحالف حاولت لملمة الخلافات والمضي قدما، كما أن بعضها كان يريد الحفاظ على حزب الأمة حتى يظل في منظومة الأحزاب المعارضة. إلا أن البعض يرى أن ما يحدث من صراع بين الجانبين هو مجرد خلاف "شكلي"، خاصة فيما يتعلق بالاختلاف حول وسيلة إسقاط النظام. إلا أن آخرين يؤكدون أن ما يبرز من صراع بين التحالف وحزب الأمة القومي ليس بعيدا عن صراع داخلي يتم داخل الحزب نفسه، ومن ثم تصل إفرازاته إلى جسم التحالف، ودللوا على ذلك بالخلافات التي تظهر بين الفينة والأخرى حول من يشغل منصب الأمين العام للحزب. وكان تناقض كبير قد برز إلى السطح بين تصريح المهدي الذي أكد فيه عدم وجود علاقة بين حزبه وبين خطة المئة يوم، إلا أن الأمين العام للحزب إبراهيم الأمين أكد مشاركتهم في خطة التعبئة. وأجاب ردا على سؤال عن هذا التضارب، بقوله: "الإجماع الوطني مؤسسة يسعى فيها الناس إلى جمع الصف المعارض للوصول إلى حل سلمي، ونحن كحزب معارض نشارك في الاجتماعات التي ترتب لخطة التعبئة والتخطيط، وحزب الأمة مع استخدام الوسائل كافة ما عدا العنف". وقال الترابي ردا على أسئلة بعض الصحفيين حول بعض بنود الميثاق بقوله: "اسالوا عنه الصادق". ويبدو أن مشاركة نجل المهدي "عبدالرحمن" في منظومة الحكومة السودانية وشغله لمنصب مساعد الرئيس، تعيقه عن الانخراط في أي مواجهة مباشرة ضد النظام، أو تجعله على الأقل مترددا من الإقبال على خطوة كهذه خشية إحراج نجله الأكبر. الأب وابنته كما أن الأمين العام للحزب صديق إسماعيل صرح أكثر من مرة بأن حزبه يجنح نحو محاورة الحكومة وتغليب المصالح القومية على الحزبية. ومن المفارقات أن الابنة الكبرى للمهدي الدكتورة مريم من أشد المتحمسين لتغيير النظام بالقوة، مما يجعل أباها في حالة تنازع جعلت معارضيه يصفونه بالتردد والانتهازية. أما الضلع الثاني في أحزاب المعارضة وهو الحزب الاتحادي الديموقراطي فيبدو أن الخلافات السياسية المزمنة التي يعاني منها، وعدم وجود قيادة سياسية متفق عليها للحزب، وحالة التشرذم التي يعاني منها أجبرته على الانغلاق حول نفسه والبحث عن سبل كفيلة لحل خلافاته التي تجلت بصورة واضحة في عجز الحزب عن تنظيم مؤتمره العام لسنوات طويلة. توجس حكومي ومع أن الحكومة أظهرت عدم اكتراث بخطة المئة يوم ووصفتها بالعبثية وعدم الموضوعية، وسخرت من المعارضة، إلا أنه بدا ظاهرا للعيان أنها توجست منها، ويعود ذلك لأسباب كثيرة من أهمها الضعف الذي أصاب الجيش جراء حروبه المتكررة وعدم انصياع الرئيس البشير بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، لمطالب كثير من قادة الجيش بإقالة وزير الدفاع عبدالرحيم محمد حسين. ومن أسباب توجس الحكومة أيضا انشغالها بحروبها الداخلية، مما يمكن أن يشجعها على تكرار محاولات دخول العاصمة وإزاحة النظام بالقوة إذا اندلعت ثورة شعبية، لا سيما في ظل ما يتردد عن وجود خلايا معارضة نائمة داخل الخرطوم.