يُذكر في التاريخ أن كولومبس الرحالة الإيطالي الشهير لم يكن يُخبر طاقم السفينة المتوجهة إلى أميركا عن المسافة الحقيقية التي كانوا يقطعونها كل يوم، لأن الرحلة استغرقت أكثر بكثير مما كان يتوقع. كان كولومبس يدون المسافة الحقيقية في مدونته الخاصة، ويدون مسافة أقل من المسافة الواقعية على مدونة السفينة. السبب الذي دفع كولومبس لذلك أنه كان يخشى أن يدب الخوف بين أفراد طاقم سفينته بسبب بعدهم عن وطنهم، حيث تعتبر تلك الرحلة من أطول الرحلات في ذلك الوقت. اكتملت القصة بوصوله لأميركا واكتشافه عددا من الجزر التي لم تحط عليها قدما إنسان من قبل. تغير الزمان ولم تتغير المشاعر الإنسانية، فالبعد عن الوطن وعن دفء العائلة وحضن الأم وسمرة الأصدقاء يصحبه رهبة ورغبة وترقب وخوف. عندما نختار الغربة والسفر فنحن نختار طريقا لا نعرفه جيدا، ونأخذ على عاتقنا مسؤولية المخاطرة بترك ما نعرف إلى ما لا نعرف. نفعل ذلك لأننا نتطلع لتجربة تفتح لنا آفاقا جديدة من المعرفة وتلهمنا لنصنع مستقبل أفضل. أكتب لكم هذه الرسالة وأنا أحزم أمتعتي عائدا لأرض الوطن، بينما تحط طائرة في مطار دالس بواشنطن قادمة من المملكة العربية السعودية تحمل أخا، وأخرى تحمل صديقا، وثالثة تحمل من لا أعرفه ولم أقابله من قبل، ولكننا نتشارك نفس الهموم والآمال، ويجمعنا حب الأرض التي ترعرعنا عليها.. دفعنا الطموح لنقطع نصف الكرة الأرضية لنتعلم من حضارة ليست الأقدم تاريخيا، لكنها الأكثر عطاءً وإنتاجا. عندما تحط قدماك على الأراضي الأميركية تذكر أنه من هذه الأرض ارتفعت أول طائرة لترى العالم من السماء، ومنها تم بناء أول غواصة استكشفت أعماق البحار.. ومن هذه الأرض بُثت أول محطة إذاعية لتخلق نمطا جديدا من الإعلام في ذلك الوقت، وتوالت الاختراعات والاكتشافات حتى تربعت هذه الحضارة على قمة ركب الحضارات، تاركة للآخرين التقليد ومحاولات خجولة للحاق. إن أسمى مقاصد الابتعاث لا تتحقق إلا بعقل وقلب منفتح على الآخر.. مستعد لتقبل الاختلاف وإعادة النظر والنقاش والتعلم. أنت من يصنع ويرسم ويصمم رحلتك، وفي النهاية أنت من يجني النتائج. لك أن تعود من هذه الرحلة بالمعرفة والتجارب المثمرة، أو أن تعود بوعثاء السفر. يقول الكاتب مارك توين "السفر قاتل للكراهية والتعصب وضيق الأفق". فلا يكن تركيزك في السفر هو البحث عن الأخطاء وعن العيوب ومثالب الشعوب، بقدر بحثك عن المعرفة والحقيقة ومصادر النجاح. إن تعلم لغة جديدة بحد ذاته هو أبعد وأعمق من حفظ الكلمات والقواعد.. إنه غوص في أعماق ثقافة شعب لديه الكثير كي تتعلم منه، وسفرك هو فرصة استثنائية كي تتعلم اللغة، والأهم أن تتعلم منها. السفر هو فرصة للاستقلال واستكشاف النفس والمغامرة، وتصرفاتك خلال سفرك بعيدة عن تأثير المجتمع والعائلة، فاحرص على تقديم نفسك بصورة تكون راضيا عنها أولا وتتسق مع القيم العليا التي نشأت عليها.. أطرق الأبواب المغلقة واستكشف واسأل وناقش وتعلم، واجعل لرحلتك مردودا على شخصيتك ينعكس على مختلف جوانب حياتك.. اصنع أفكارك وقناعاتك بناءً على ما تتعلم، واكتشف العالم من أفق أوسع، ولا ترجع كما كنت قبل أن تسافر، فمن لم يتغير لم يتعلم. لا تفوت روعة السفر، ولا تنس أن أروع ما في السفر هو أن تحقق أهدافك التي سافرت من أجلها. يقول الكاتب الصيني لين يوتج "لا أحد يستوعب روعة السفر حتى يعود للبيت ويستريح على وسادته المريحة التي اعتاد عليها".. إن في السفر روعة قد لا تراها وأنت فيها، فحاول أن تستغل كل لحظة فيها.