،، لقد أعجبتني العبارة المصاحبة لإعلان الهيئة العليا للسياحة «تقرب من أفراد عائلتك» فقد أشعرتني بالتقصير كثيراً مع أبنائي الذين يتطلعون كل عام للسفر معي دون جدوى، وتخيلت كم أنا مفرط فعلاً في الفرص الصيفية التي تجعلني قريباً منهم بصورة مختلفة عما عهدوها عني،، (1) لا أعلم لماذا أشعر بحيرة كلما أقبل الصيف، ربما لعدم وجود معنى واضح في مخيلتي لما يعنيه الصيف فلم أكن يوماً من الذين يحزمون حقائبهم كل عام للسفر خارج الوطن وإن فعلت فلدول الجوار التي منها طبعاً ما هو خلف البحر. ومع ذلك فإني ارتحل بين الفينة والأخرى ولكن ليس في الصيف فقط أي أن السفر ليس مهمة صيفية، ولعل هذا هو ما يجعلني لا أستوعب كلمة تصييف ومصييف كثيراً، وهي مشكلة شخصية تاريخية في حياتي، تعاني منها أسرتي كثيراً. فقبل امتحانات نهاية العام الدراسي وأثناءها وبعدها يسألني أبنائى عن برنامج الصيف وأين سنسافر، ويتوقعون أن أقول لهم سنذهب إلى هذا البلد أو تلك ولكن يمر الصيف ولا نتحرك كثيراً. أقول بصراحة إنني من الذين يشعرون بثقل كبير في مسألة السفر مع الأسرة، فالصيف بالنسبة لي فرصة للراحة والاختلاء بالنفس وربما لبعض الرحلات القصيرة لإداء مهام علمية أو عملية غالباً ما أكون منفرداً فيها أو مع «أم العيال»، أما الأطفال فشأنهم شأن آخر. ويبدو أني لم أستطع كل هذه السنوات أن أغير من عاداتي غير الأسرية في السفر رغم أنني مؤمن إيماناً كاملاً بفوائد الترحال والخبرات التي يمكن أن نجنيها كأسرة من أي رحلة نقوم بها مجتمعين، خصوصاً وأنني لا أرى في السفر مسألة عبثية أو أنه للتسلية فقط بل هو معرفة وفرصة لبناء الشخصية، وفي الغرب غالباً ما يصفون الرجال المحنكين بأنهم «سافروا كثيراً» well traveled. ولعل هذا هو ما جعلني هذا العام أفكر جدياً في رحلة أسرية أم أحدد بعد وجهتها وأخاف أن ينقضي الصيف قبل أن أحسن أمري. (2) لقد أعجبتني العبارة المصاحبة لإعلان الهيئة العليا للسياحة «تقرب من أفراد عائلتك» فقد أشعرتني بالتقصير كثيراً مع أبنائي الذين يتطلعون كل عام للسفر معي دون جدوى، وتخيلت كم أنا مفرط فعلاً في الفرص الصيفية التي تجعلني قريباً منهم بصورة مختلفة عما عهدوها عني كون السفر والترحال يكسر روتين الحياة ويكون فيه كثير من المصارحة والتعرف على الآخر بعمق، سواء الآخر داخل الأسرة نفسها أو خارجها، وقلت في نفسي يجب أن أتقرب لأبنائي هذا الصيف ويجب أن أبدأ ببرنامج غير الذي تعودوا عليه طوال العام، وهي فرصة فعلاً أن نعيد اكتشاف بعضنا لبعض لأنني رأيت أنني أقضي وقتاً طويلاً مع أفراد أسرتي حتى عندما أكون في المنزل، فأنا غالباً ما أكون منعزلاً إما أقرأ أو أكتب أو أؤدي عملاً ما ونادراً ما يكون هناك فرصة للعب والمزاح مع الصغار. ويبدو أن شعار الهيئة العليا للسياحة حرك داخلي شجوناً كثيرة وأشعرني بالمسؤولية. ومع ذلك فأنا لن أتحدث عن السياحة الداخلية التي يبدو أنها تتحرك بشكل إيجابي في الآونة الأخيرة، ولعلي هنا أشير إلى ما يقوم به الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالله «نائب الأمين العام للاستثمار والتسويق» فأنا أعرف هذا الرجل منذ سنوات وقد التقيته قبل أيام وتحدثنا عن السياحة الداخلية التي اتخذها هماً وهدفاً وقال لي إنني مؤمن بالأرقام وسترى كيف سيكون الأمر، وأنا أصدقه وأعتقد أنه «بدعم من سمو الأمين العام» يستطيع إحداث تغيير جذري في مفهوم السياحة الداخلية في بلادنا. (3) إغراءات الصيف الكثيرة تتبخر مع أول أسبوع في الإجازة الصيفية، وتتحول الحياة الأسرية إلى سهر في الليل ونوم طوال اليوم، وحتى أولئك الذين يقضون إجازتهم في الخارج، لا يختلف برنامجهم كثيراً، فلم أسمع إلا نادراً عن رحلات استكشافية صيفية، أو أن بعضهم قام ببعض المغامرات لبناء أواصر عميقة مع من حوله من خلال بعض الرحلات الخلوية. أذكر هنا أني وأصحابي كنا نقوم برحلات بحرية أسبوعية عندما كنا في مرحلة الثانوية، لكني لا اسمح لأبني للقيام بمثل هذه الرحلات في الوقت الحاضر، ربما لأنني لا أثق في الإغراءات المعاصرة وهذا الانفتاح على كل شيء في الوقت الحالي. كما أنني لا أجد هناك هدفاً واضحاً وحماساً لدى الشباب (ابني وأصحابه) في «التلذذ» بالمغامرة من أجل المعرفة. ولا أريد هنا أن أحول السفر والرحلات إلى دروس وعظات لكنها الحياة التي يجب أن نتعلم منها ولا أجد هناك سوى من يبحث عن المتع فيها. ولا أعتقد أنني من الذين لا يرغبون في الترويح عن النفس لكني من عشاق المكان ومن الراغبين في اكتشافه وأتمنى أن تكون السياحة الصيفية فرصة لمثل هذا الاكتشاف. كما أنني أتمنى أن تكون ثقافة المكان هماً «تعليمياً» يسمح بممارسة التعلم من الأمكنة التي نشاهدها عادة في حياتنا. (4) وهو السبب نفسه الذي جعلني أشعر بقيمة شعار الهيئة العليا للسياحة، لأن البعد الاجتماعي الأسري الطاغي على الشعار جعلني أفكر بجد في «ثقافة الأسرة السعوية» (وهي ثقافة مكانية كذلك) وكيف يمكن إعادة تشكيل هذه الثقافة سياحياً، وقد كنت بدأت مع زميل لي قبل سنوات في إجراء بعض الدراسات الثقافية - الاجتماعية حول سياحة الأسرة السعودية وأنماط استخدام المكان والسلوكيات المترتبة على ذلك لكني لم أستمر وتوقفت عن مثل هذه الدراسات ربما لأني لم أجد أي تفاعل معها، وقد كان يفترض أن تتحول مثل هذه الدراسات وغيرها إلى عمل حقيقي يشخص الحالة الثقافية السياحية للأسرة السعودية. وما أراه هنا هو أن يستثمر الشعار مرة أخرى «أكاديمياً» ففكرة التقرب من العائلة لها وقعها المكاني وستفرز أنماط سلوكية جديدة، فلماذا لا تحاول الهيئة العليا للسياحة إنشاء «مرصد سياحي» يبحث في التركيبة الأسرية وأنماطها الثقافية ويغوص في مسألة التفاعل الإنساني والمكاني ويشكل خارطة ثقافية - مكانية للسياحة الداخلية في المملكة. ويمكن أن يكون هذا المرصد السياحي مشابهاً من حيث الفكرة للمراصد الحضرية للمدن، فتلك المراصد أصبحت رافداً مهماً للمعلومات التي تؤسس لبيئة قرارات يمكن الركون إليها. (5) في الصيف تشدني كتب الرحلات، وأجد متعة عظيمة في قراءة كل ما يجسد المكان والشعوب بالكلمات فقد أقتنيت في آخر معرض للكتاب زرته في «أبوظي» عدداً كبيراً من كتب الرحلات. وهناك سلسلة تسمى «ارتياد الآفاق» تصدر عن دار السويدي في أبوظبي، تسجل وتحلل أدب الرحلة» ووجدت فيها عالماً خاصاً وجميلاً وتخيلت الرجال الأوائل كيف حولوا رحلاتهم إلى أسفار «كتب» ضخمة سجلت رؤى «أنثوجرافية» للأماكن التي زاروها والحقيقة إنني غالباً ما أحاول اكتشاف الآخر من خلال كتب الرحلات، فقد تعلمت كيف كان يرى العرب الغرب في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من سلسلة الرحلات وقرأت المدينة العربية والسعودية من خلال كتب الرحالة الغربيين. الغريب في الأمر أن السفر في الماضي كان مجهداً وتكتنفه مخاطر عدة وقليل من الناس الذين يقتحمون تلك المخاطر، لكن كان هناك أدب رحلات بينما في الوقت الراهن كلهم يسافر فما عاد السفر خطراً وما عاد يمثل «مغامرة» كما كان في السابق، ولعل هذا ما يجعل الكتابة في عن البلاد الأخرى لا معنى لها لأن الكل أصبح قادراً على زيارة أي مكان والاطلاع شخصياً على كل التفاصيل، وأحياناً كثيرة لا يحتاج إلى التحرك من مكانه فقد ظهر ما يعرف ب «السفر الافتراضي» حيث يستطيع أي منا أن يكون في أي مكان على وجه الأرض وهو جالس في غرفته الخاصة. لقد فقدت أشياء كثيرة قيمتها ولعل هذا ما دفع بفكرة السفر إلى التسلية المحضة، ولم يعد يحمل روح المغامرة كما كان من قبل. وأنا هنا لا أحاول أن أتخذ لنفسي العذر لعدم سفري مع أسرتي لذلك لزم التنويه. (6) ولا أعلم ما يمكن أن يقوله أي منا لو حاول الكتابة عما شاهده عند زيارته لبلد ما، وربما هذا جعل كثيراً من الكتاب إلى خلط الواقع بالخيال كما فعل أنيس منصور في كتابه حول العالم في مئتي يوم بالتأكيد يختلف عن الرواية المعروفة «حول العلم في ثمانين يوماً» وإن كان كتب على غرارها. وقد كانت مثل هذه الكتب هي «سفري وسياحتي» الوحيدة عندما كنت صغيراَ نعم الصاحب والصديق. ولا أدري هل سيكون لأي كتابة في هذا المجال معنى في الوقت الحالي، لكن الأمر المفجع هو أنني لا أجد من يقرأ حتى يكون لأي كتابة معنى. فقد ولت إغراءات القراءة مقابل إغراءات كثيرة، ولم يعد الصيف فرصة للقراءة خارج نطاق الدراسة الرسمية. ولعلي هنا أقترح على الهيئة العليا للسياحة «وقد أثقلنا عليها بالمقترحات» أن تفكر في مسألة السياحة الفكرية عن طريق جعل فكرة «القراءة للجميع» جزءاً من مهرجاناتها السنوية التي تقام في كل المدن السعودية تقريباً. وأرى أن الهيئة تستطيع أن تفعل مسألة القراءة وأن تشجعها خصوصاً وأن وزارة الثقافة مهتمة بأمور كثيرة ليس لها علاقة بالقراءة نفسها، ولعلي هنا أقترح أن تؤسس الهيئة العليا للسياحة شراكة حقيقية مع الناشرين «داخل المملكة وخارجها» ورجال الأعمال لعمل مثل هذه المهرجانات ورصد جوائز لها، كما أنني أرى أن هناك إمكانية أن تقوم الهيئة بإصدار سلسلة من الكتب التي تعنى بثقافة المكان، تؤسس لثقافة سياحية عميقة وهو أمر ممكن ومتاح ويصب في بناء الصورة الوطنية العميقة التي تحاول أن تصنعها السياحة الداخلية، لأن السفر عبر الوطن ليس مجرد «سياحة» بل هو بناء علاقة مع المكان الكبير الذي يضمنا جميعاً. (7) ولعلي هنا أعود للصيف وما يثيره في نفسي من إغراءات حيث تعاودني المشاعر المتضاربة نفسها في بداية كل صيف، تسارع دقات القلب نفسها مع انقضاء عام دراسي، ومع تسارع رياح «السموم» الملتهبة، إحساس الطفولة في داخلي لم يتغير «صيفياً» رغم كل هذه السنوات والتجارب، ولا أعلم تفسيراً لهذا الشعور سوى الحنين لشيء ما غائر في النفس فتشت عنه كثيراً ولم أجده. إنه جزء من نفسي ومن تركيبتي الشخصية، واعتقد أن كل منا مرتبط بموسم معين ولبعض الأيام تأثير على مشاعره أكثر من غيرها. هذه المشاعر تجعلني في حالة سكون وتجذبني للعزلة أكثر من الانفتاح على الآخر. هذه السنة عاودتني المشاعر نفسها وأجد نفسي الآن في حالة مقاومة لها حتى لا تجرني للعزلة الصيفية التي أكون فيها كل عام. وما أتمناه حقيقة أن يتحول شعار الهيئة العليا للسياحة «عندي على الأقل» إلى حقيقة وأن أخطو خطوات جادة للتقرب من أفراد عائلتنا الكبيرة من خلال السياحة الداخلية كما أنني أتمنى فعلاً أن يقوم كل منا باكتشاف أسرته الصغيرة وتلك الممتدة عبر سهول الوطن وجباله فهذا عمل خلاق وممتع أتمنى ألا يفوتني هذا العام.