التغافل سلوك نبيل يستشعر فيه المرء طيب نفسه وسماحة قلبه وكيف يزيح عناء تأنيب الضمير وهو يدور في فلك التسامح واحة الاطمئنان العملاقة، الحياة بطبيعة الحال لا تخلو بحال من الأحوال من المتاعب إذ أن لكل مرحلة معطياتها ومتطلباتها، وبالتالي فإن تحقيق الحد الأعلى من رحابة الصدر يبعث على الارتياح، أي أن المرونة في التعامل والتنازل عن بعض الأمور الثانوية لن يؤثر على استمرار المودة في التواصل حينما تنبري الألفة لتحتوي أخطاء صغيرة وتلقائية كوضع إنساني نبيل ولا يستلزم حشد هذا الكم من رد الفعل، البعض يرى بأن الحذف يعني تطورًا ديناميكيًا حضاريًا في المقاييس الكمبيوترية أو من خلال الجوال ويمارسه باستمرار وعن قناعه، غير أنه يعني تطورًا أخلاقيًا في المقاييس المنطقية فطالما أنك حاذف وبارعًا في الحذف فليكن حذف الأخطاء الصغيرة عربون مودة وتوجه صادق ينحو إلى المثالية في التعامل بل لتنال محبة الخالق جل في علاه والله يحب المحسنين، اللباقة وطيبة القلب تحقق مكاسب معنوية من خلال تمرير التسامح وما تعنيه هذه القيمة الجميلة من إضافة تألفها القلوب النبيلة وتعشقها الأرواح المتعطشة للكلمة الطيبة. وقيل «البِشر يدل على السخاء كما يدل الزهر على الثمر» ويدرك الإنسان اللبق أن التراجع والتنازل لا يعد منقصة البتة، بل إنه ينبع من الأصالة المتجذرة من روح أبيّة تستعصي على الارتهات لصنوف الغل والحقد والحسد، وها هي أعمدة الخير الباسقة والمطعمة بالنبل والصفاء وحسن النية تدمدم وتمسح وتجبر الكسور بالفعل الطيب والكلمة الحانية والتغافل عن أمور صغيرة بل إنها في المنزل وفي الحياة الأسرية تعد قمة الرقي والنضج، وحق لهؤلاء الشرفاء أن يقفوا مزهوين بحسن صنيعهم وحق علينا أن نكافئهم بالدعاء لهم والإشادة بهم ليس لأنهم يستحقون ذلك فحسب بل في تجسيدهم للسلوك السوي من خلال مآثر تعلو شامخة حين أمسى الخلق الكريم سمتهم البارزة مفضيًا إلى الترفع عن الوقوع في الزلات، خصوصًا ما يتعلق منها بالمشاعر وتحاشي شرخها، ذلك أن مستواهم الحسي الرفيع أصبح متسقًا مع الفضيلة ومجسدًا الإيثار المعنوي الجذاب في أبهى صوره. ولو لم يكن مبدأ إتاحة الفرصة متداولًا بين الناس ومسهمًا في التيسير على العباد لما تعلم أحد بل لن يبقى أحد على هذه البسيطة. فبات حريا تحقيق التوازن وتأصيل القيم النبيلة والتي تحث على التسامح في كل المجالات، المعلم والمدرب يدركون مدى أهمية هذا العنصر ليس فقط في إيصال المعلومة بل التأكيد على استيعابها بشكل صحيح، فإذا أخطأ الطالب في المرة الأولى فله ثانية وثالثة وهكذا، لاعب الكرة يخفق في تسديد ركلة جزاء فينسى الجمهور إخفاقه بعد مباراة واحدة وربما يسجل في المباراة نقسها فيمدحون زلته، يخطئ الفنان أو يخونه التعبير في لقاء معين، ومع أول حفله يتسامح الجمهور وينسى ما كان منه. في حين أن هذا هو التقدير الموضوعي والمنصف تفعيلا لهذا المبدأ الجميل، الابتسامة وطلاقة الوجه تشكل عنوانًا بارزًا للسماحة وطيب النفس وما ذلك إلا خلقًا كريمًا يحمل المعاني القيمة النبيلة، وتفضي أثارهما إلى رفع مستوي الإحساس بالأمن الفكري والنفسي على حد سواء، في حين أن ذلك ينعكس تلقائيًا على المستوى الاقتصادي أيضًا. فالحدة تولد المقاطعة والجفاء يولد الصراعات النفسية المتشابكة لتلقي بظلالها الكئيبة على سماحة النفس. فجدير بأن لا يطغى التصنع على التلقائية، الفراغ العاطفي الرهيب والشعور بالوحدة سيرافق فظ القلب كظله، فطالما لم يعط الخير وعمله ما يستحق فإنه حتما سيشعر بالوحدة ولو تابعه كل من على هذه الأرض. ورد في الحديث الشريف الكلمة الطيبة صدقه وتبسمك في وجه أخيك صدقة، على حين أن التقنية ومصادرها المتعددة لم تعد قادرة على ملء الفراغ العاطفي والمفتقر إلى العطاء المعنوي على الوجه الأمثل والذي لا تستطيع تحقيقه أعتي مخرجات التقنية لأنها تظل جمادًا مهما تعددت وظائفها وتنوعت أساليبها. مبدأ إتاحة الفرصة يزيح الشقاء عن الذات ويفيض منسوبه العذب على القلوب الكبيرة، وفي خضم تقنية التواصل المباشر في الوسائل المختلفة ربما لا تسعف البديهة البعض، لذا فنحن بحاجة ماسة إلى أكبر قدر من الأريحية والتسامح وسعة الصدر وتمرين النفس في منح هذا المبدأ المتوهج مساحات أكبر في قلوبنا، لنكون من المحسنين العافين عن الناس الذين يحبهم المولى تبارك وتعالى، فمن أخطأ وبادر بالحذف والاعتذار جدير بالعفو والمسامحة. ديننا الحنيف يمنح الروح والطمأنينة والسكينة وما يجده المؤمن من إشباع غزير لروحه المعنوية كلما سكن قلبه بقرب آيات الله المحكمات وهو يتلوها آناء الليل وأطراف النهار في صلاته وحياته، ويلتزم بمحتواها المشرق المضيء ليطمئن فؤاده وتسكن جوارحه، وهو يدرك أنه ليس وحيدًا حينما يرفل في رحاب السمع والطاعة لمن خلق السمع والبصر والفؤاد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. يقول الشاعر النبطي: " دور على شيءً تساعد به الناس واترك طريق الخير مفتوح بابه َ أما تحصل كلمةً ترفع الرأس ولا تحصل دعوةٍ مستجابه".