إذ لم تَسنح الظروف للعراقيّ شمران الياسري («أبو گاطع».. تمرّ ذكرى رحيله ال 43 في 17 أغسطس) بالدراسة النظاميّة والأكاديميّة، فإنّه تمكّن من فكّ رموز الحرف بفضل والدته، وفيما بعد استطاع أن يُعلِّم نفسَهُ بنفسِه؛ ولأنّه عصاميّ واعتمد على قراءاته الذاتيّة، فقد أخذتْ عوالِم عديدة تتكشّف أمامه، وكان كلّما توغَّل في القراءة والتهام الكُتب ومُطالَعة الصحف والمجلّات، ازداد خزينه من الصور والحكايات والقصص، تلك التي كان يُطعّمها بما يستقيه من حياته، ليقوم بتمليحها وتزيينها بخياله الخصب، وبما كسبه من ثقافة ومعرفة، وسرعان ما بدأ حبره يسيل، وخصوصًا بعدما اكتظّ قلمه بالأسرار والأخبار والنوادر. وبالتدريج أصبحت علاقة ذلك الفتى الفلّاحي وثيقةً بعالَم الحَرف، بل إنّه كان قد عَقَدَ نوعًا من الصداقة المديدة بينه وبين القلم، لم يفرّقه سوى الموت اللّعين، لدرجة أصبح مدرسة خاصّة في الإعلام والرواية، يُشار إليه بالبنان والتميُّز والفرادة. وكانت البداية العمليّة لاقتحامه ميدان الإعلام، هو برنامجه الإذاعي «أحجية بصراحة يبو گاطع» (أي قلْها بصراحة...)، ومرورًا بعموده في جريدة «طريق الشعب»، وصحف أخرى قَبلها، ووصولًا إلى روايته الرباعيّة: الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس حميّد، والتي طبعها على نفقته الخاصّة، وباعَ نسخًا عديدة منها قَبل صدورها تحدّيًا للرقابة، التي رفضت طبعها لذرائع واهية كما هو معروف، ثمّ رباعيّته الثانية التي لم تكتمل «قضيّة الحمزة الخلف» والتي صدر جزؤها الأوّل بعد وفاته. وبين هذا وذاك، ثمّة عشرات الأقصوصات والحكايات والخواطر ذات النكهة القصصيّة أو «الحكواتيّة»، التي كان «خلف الدوّاح» راويته الشهير يصدح بها، وتأتي على لسانه طازجة وشهيّة، وكان قد جمعَ منها عددًا صدرَ بكرّاساتٍ في أواسط السبعينيّات، وغالبيّتها مقالات في الصحف والمجلّات، ثمّ صودر العدد الأخير منها من المطبعة. وظنَّ كثيرون أنّ «خلف الدوّاح» شخصيّته الأثيرة، إنّما هو اسمٌ وهميّ حتّى نَشرْتُ صورته للمرّة الأولى في كتابي «على ضفاف السخرية الحزينة» في طبعته الأولى - لندن - 1998. كما نشرتُ اسمه الحقيقي والصريح «كَعود الفرحان»، وهو الذي ظلّ ملازمًا ل «أبو گاطع»، يسير معه مثل ظلّه، وخصوصًا وقد أصبح رديفًا له ولقلمه. الذئب الذي تَرَصَّدَهُ عاش أبو گاطع ظروفًا قاسية، فهو الفلّاح الذي انتقل إلى المدينة، حيث عمل لاحقًا موظّفًا في وزارة الإصلاح الزراعي، وبعدها مقدِّمًا لبرنامجٍ إذاعي، ثمّ سجينًا بسبب دعوته للسلم في كردستان، ومُختفيًا في الريف لبضع سنوات، ثمّ لاجئًا غير سياسي على حدّ تعبيره، إثر ملاحقته بتهمة كونه «تاجر أسلحة»، وإحالته إلى «محكمة الثورة» في حينها، وكان «الحُكم» المنتظر حسب تهكّماته «أقلّن.. أقلّن الإعدام»، (أي أنّ أقلّ حُكم هو بالإعدام) وهو ما عُرفت به المحكمة المذكورة من إصدار أحكام غليظة وبصورة اعتباطيّة. وإذا كان قد أفلت من «الذئب اللّئيم» على حدّ تعبير الشاعر الجواهري، الذي ظلّ يترصّده لسنواتٍ عديدة، فإنّ الأخير كان له بالمرصاد في المنفى، فتمكّن من اصطياده في حادث سير غاشم، حين كان ينوي زيارة نجله الأكبر «جبران» وهو متوّجه من براغ إلى بودابست، وقد نُقل جثمانه إلى بيروت ليوارى في مقبرة الشهداء الفلسطينيّين. روائي الريف إذا كان غائب طعمة فرمان بحقّ هو روائي المدينة بكلّ خفاياها وخباياها وشوارعها وأزقّتها وعاليها وسافلها كما يُقال، فإنّ أبو گاطع كان روائيّ الريف بكلّ تناقضاته، ناقلًا حديث الدواوين والمضايف والمجالس، ليجعلَ منه مادّة للرواية والأقصوصة والحكاية والعمود الصحافي، وكان يقوم بتقديم ذلك كلّه بصورةٍ مجسّمة، تلك التي تخصّ حياة الريف الحقيقيّة بما لها وما عليها، أي حياة الفلّاحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل (والوسطاء) والنساء والعشق المحرَّم والحبّ واللّوعة والظلم والقسوة، إضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعيّة، مسلّطًا الضوء على الزيف والخداع والاستغلال. يُمكنني القول إنّ «أبو گاطع» كان رؤيويًّا، أي أنّه ينظر بعيدًا، حتّى أنّ جزءًا من عقله كان يعيش وكأنّه للمستقبل، وكانت رؤيته واقعيّة وليست تجريديّة أو نظريّة، لأنّها كانت تنطلق من حياة الناس وتعود إليهم، وهي رؤية تمتاز بالصفاء والوضوح، خصوصًا وقد مزجَها بقيَمٍ تتطلّع إلى الحداثة والجمال والسلام والمساواة والعدل. وقد وجدَ أبو گاطع في أسلوب القصّ، الحكاية أو الأقصوصة أو الرواية، وسيلة يَستثمر فيها كلّ ما اختزن في ذاكرته من حياة الريف أو ما استحضره من خيال وما كان يحلم به من رؤىً؛ وبقدر ما كانت الرواية قَبل أبو گاطع تنقل عن واقع الريف أو تلامسه، إلّا أنّ رؤيتها ظلّت مدينيّة أو أنّها تُعبِّر عن رؤية المدينة، لكنّ أبو گاطع تمكّن من نقل حياة الريف من داخل الريف وليس عنه، إلى المدينة، لأنّه لم يكُن طارئًا أو متطفّلًا عليه، بل كان من صلبه، وحاول أن يعكس حياته بما لها وما عليها، في حين كانت كتابات أخرى سبقته تمثّل نظرة المدينة للريف، ولم تكُن قادرة على تصوير حياة الريف كما هي، فقد بقيت «برّانيّة» ولم تستطع نقل أجوائها «الجوّانيّة». لم يكُن أبو گاطع متفرّجًا على ما يجري في الريف وحياة القرية في إطار مشهدٍ خارجي، بل كان من الريف وكتبَ عن البيئة الريفيّة، مقدّمًا لنا إيّاها على قدرٍ من التشويق والتوتّر والانفعال بكلّ تناقضاتها وتعقيداتها. بين طه حسين والطيّب صالح وجورج أورويلإذا كان طه حسين في كتاب «الأيّام» قد قدّم الشابَ الريفيّ القادم من قرية «المنيا» المتشبّع بالثقافة الأزهريّة كنقيضٍ للحضارة الغربيّة التي تُخيفه، وفعلَ الطيّب صالح في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» حين جسّد علاقة الريفي بالمدينة الأوروبيّة، حيث وضعه بين سيقان فتاة شقراء مضيفًا تناقضًا وازدواجيّة جديدة على أصوله الفلّاحيّة «ذات المسحة السمراء» وحاضره الإنكليزي، إلّا أنّ رواية أبو گاطع في الرباعيّة حاولتْ كسْر هذا الاحتكار في التحدّث عن الريف من خارجه، بعدما رسمَ صورةً ضاحكة جديدة لابن المدينة أيضًا، وأوهامه وأكاذيبه وألاعيبه، تارةً باستعارة «حكمة» الريف وتراثه، وأخرى بالسخرية منه لسذاجته وأوهامه، من دون أن يسقط في الأحكام المسبّقة والإرادويّة، التي وقع فيها أبناء المدن في روايتهم المدينيّة عن الريف؛ وسواء جاءت مباشرةً أم تلميحًا، فإنّ الكثير من الروائيّين العراقيّين كانوا أبناء مدن، مثل محمود أحمد السيّد وسليمان فيضي وجعفر الخليلي وذو النون أيّوب، وبعدهم عبدالملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وفاضل العزاوي وعبدالرحمن مجيد الربيعي ومحمّد خضيّر وغيرهم. لقد ظلّ أبو گاطع، وباستثناءاتٍ محدودة، يَعتمد الأسلوب المباشر والخطاب ذا التوجّه الإيديولوجي الصارخ في التعبير، مثلما فعل في برنامجه أو في عموده الصحافي أو في رباعيّته، لكنّه بدأ، وإنْ ببطء وبالتدرّج، يميل إلى الترميز والدلالة، وهو أسلوب حاول أن يعتمده في السنوات الأخيرة، وخصوصًا بعد نضْج تجربته واكتمال أدواته الفنيّة، وإن ظلّ صوت الأيديولوجيا قويًّا في داخله، وبالطبع فإنّ ذلك يضعف العمل الفنّي، لكنّ تلك النبرة الأيديولوجيّة الصارخة خفَّت كثيرًا في رواية «قضية الحمزة الخلف»، التي صدرت بعد وفاته في بيروت عن دار الفارابي، وفي بعض الأقصوصات مثل «موت الكلبة مرزوقة» و«حكاية الضبع الأكبر» التي نشرتُها للمرّة الأولى، وقد يكون قد تأثّر بجورج أورويل وروايته «مزرعة الحيوان». محلي بنكهة عربية وأفق كوني استخدمَ أبو گاطع اللّهجة الشعبيّة أو اللّغة المَحكيّة بأسلوبٍ باذخ كما فعلَ الشاعر مظفر النوّاب في قصيدته الشعبيّة، من دون أن يلتفت إلى ما قيل بشأنها من انتقاصٍ للّغة العربيّة أو للفصحى، لأنّه كان يريد إحداث التأثير المطلوب في وعي المتلقّي، ناهيك بما تحمله من دلالاتٍ أحيانًا، ليس بإمكان اللّغة الفصحى التعبير عنها. وأصبحت استخداماته «مقبولة» في تضمين بعض النصوص بالعاميّة العراقيّة، وإنْ استمرّت الاعتراضات الشديدة بشأنها. وكان مبرّره أنّه يجدها أحيانًا أكثر تعبيرًا عمّا يريد أن يقوله، وإنْ حاول المُحافظة على اللّغة العربيّة وجمالها وتنوُّع مفرداتها، لكنّه في الوقت نفسه كان يلجأ إلى العاميّة لتطعيمه، ويجد في ذلك وسيلة مناسبة لمخاطبة جمهور أوسع. وحاول في حكاية «يوم القيامة أو يوم الحساب أو شيء قريب من هذا» استخدامَ اللّهجة السوريّة، التي كان يتمازح بها مع صديقه السوري «عصام»، وظلّت كلمات مثل «تقبرني» أو «العَمَه» أو «لكان» لازمات يردّدها بمتعة شديدة، لأنّه يعتقد أنّ ذلك يملّح نصّه ويعطيه مقبوليّة أكثر. ظلّ أبو گاطع في المضمون والشكل عراقيًّا صميميًّا ومحليًّا إلى أبعد الحدود؛ ومن هنا نستطيع أن نُدرك ماذا يعني الأُفق اللّغوي، وخصوصًا حين يسعى المُبدع إلى تخطّي حدود المكان إلى عالَمٍ أكثر شساعة، وهو ما طبعَ روايات غائب طعمة فرمان وعددٍ من الروائيّين العراقيّين، الذين وإن كانت رواياتهم محليّة، لكنّها في الوقت نفسه عربيّة بأُفق عالَمي. حنظلة وخلف الدوّاح أفلح أبو گاطع إلى حدود كبيرة جدًّا في استخدام السخرية، بل إنّه من القلائل الذين امتازوا باختيار هذا الأسلوب، وبحسب كارل ماركس فالموقف من السخريّة يعني اتّخاذ موقفٍ جادّ من الحياة، وهي سلاح ثقيل الوزن وشديد الفعاليّة، لا يخشاه الحكّام والمستبدّون فحسب، بل البيروقراطيّون أيضًا من الحزبيّين المسلكيّين والإداريّين، الذين اعتادوا على نظام الطاعة وقبول الأوامر. والسخرية أقرب إلى مدفعيّة بعيدة المدى، ولا سيّما إذا أُحسن استخدامها، فإنّ مفعولها كبير جدًّا، وقد استخدَمها «أبو گاطع» بأسلوبٍ راقٍ وجميل، مصحوبة بحِكَمٍ وأشعارٍ وأمثالٍ شعبيّة. وأتذكّر أنّني بعد اغتيال ناجي العلي في العام 1987، كتبتُ عمودًا في «صحيفة المنبر» قارنتُ فيه عمود أبو گاطع برسومات ناجي العلي، وحنظلة بخلف الدوّاح وقلت فيه: كان عمود أبو گاطع يعطي ما يكفي من الفرح والسخرية، وكان قلمه وشخصيّته المملّحة «خلف الدوّاح» مثل ريشة ناجي العلي وشخصيّته الأثيرة «حنظلة»، تلك الريشة التي كانت تمتلك ذلك السحر الأخّاذ، الذي يُثير في النفس خيالاتٍ خصبة جديرة بكلّ مَن يتوق إلى الحريّة والتجديد. وعندما تقول حنظلة، فإنّك تعني خلف الدوّاح، وعندما تَستذكر أبو گاطع فأنت تحيي ذكرى ناجي العلي أيضًا، الذي استشهدَ في لندن، ولا يُمكن تصوّر حنظلة من دون فلسطين، مثلما لا يُمكن الحديث عن خلف الدوّاح من دون الحديث عن الريف العراقي والعراق كلّه. *باحث من العراق * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية