الكتاب: أبو قاطع : على ضفاف السخرية الحزينة الكاتب: عبدالحسين شعبان يسيل حنين حزين بين سطور، ويركض شوقٌ خفي بين فقرات النص ليردم ما ينتقص من شخصية بطل الكتاب: ابو قاطع، الصحافي والقاص العراقي الراحل 1981 إثر حادث سيارة في تشيكوسلوفاكيا، لكنه لا زال مقيماً في وجدان المؤلف عبدالحسين شعبان حتى هذه اللحظة بحكم حميمية الصداقة ورفاقية الفكر والحزب. وليس ثمة نص أصعب من ان يكتب المرء عن ناس تناصف وإياهم لحظات العناد والارتجاف في ليالي مطاردات الامن، وتشارك معهم ايام التضاحك في مقهى كولومبيا في قلب براغ العريق، واقتسم وصحبتهم منفى يضيع جماله في زحمة تنافس الشوق ومرارة الاخبار الواردة من "الوطن" وتماهى وهم فكراً وهماً وارادة تغيير. وان كان لا بد من الكتابة فان النص الذي يسطّرون لا يكون، وليس من المطلوب ان يكون تقويماً أكاديمياً جافاً وبارداً، فهذه مهمة يقوم بها الآخرون ومن الظلم ان تُناط بمن تشابكت أكفهم مصلوبين على جدران الجرح المفتوح والدامي لسنين طوال. وما يغدو مطلوباً من شركاء المرارة والابتسامة وليالي البرد والخوف وترقب هطول زخات الرصاص على البيت السري من "قوات الحرس القومي!" أمر آخر مختلف. مطلوب منهم استنطاق ذاكرة التفاصيل الصغيرة المنسية، وترسيم الزمان والمكان، ورشه بروائح وطعم الحوادث سواء كانت رائحة تناثر الطين في اعقاب فرار ما في ليلة مطيرة في الريف العراقي، او رائحة العرق ودخان السجائر في غرفة ضيقة يعجّ بها اجتماع حزبي قلق. هذا ما يفعله عبدالحسين شعبان، يجمع أدقّ التفاصيل عن حياه بطله، ويحافظ على لهجة "ابو قاطع" العراقية المطعّمة بالمصطلحات الحزبية: "رفيق لازم تجي… نريد نناقش الوضع"، وعندما "يجي" الرفيق يكتشف ان ابو قاطع مهموم ويريد ان يفرغ احزانه، اذ ليس هناك "وضع" يحتاج الى النقاش، واذ يتعاتب الرفيقان يمزح ابو قاطع: "بصراحة اعتبرها مهمة حزبية!". ابو قاطع، شمران الياسري، فلاح عراقي طلع من ريف مقاطعة الكوت ويمم نحو العاصمة بغداد وصحفها ومجلاتها. وفي عنفوان انتقاله تغافل عن ان يغتسل من تربة قريته فظلت عالقة في ثنيات جسده وحروف كلماته، وظل منسوباً الى ريف ذاب فيه وبفلاحيه عشقاً الى درجة التقدس والتنزيه. بين الريف والمدينة نما "الحس الطبقي" ل "ابو قاطع" فصار عضواً في الحزب الشيوعي عام 1956، واستهواه ان يكون مثقفاً غرامشياً ملتزماً، مغامراً بتعريض ابداعه لمقصلة الايديولوجية، فانتهى الى حيث يتوافد كثير من المثقفين والادباء الحزبيين: الى التشطير الرهيب الذي تفرضه عليهم بلا هوادة اشتراطات التحزب، من جهة، واشتراطات الابداع من جهة اخرى. هناك يظلون ينزفون في معركة طويلة الامد تدور رحاها بين الاشتراطين وتنتهي بأن تطلع النصوص مثخنة بجروح الايديولوجيا وقد أعياها النضال الاحادي البوصلة، وحجب عنها شموساً كانت بأمس الحاجة الى نورها. من هنا يمكن فهم ابو قاطع والناس الذين يعيشون في النص الذي يكتبه اكثر من همّه بالنص ذاته. والاقتباسات المطولة والقصص والاعمدة الصحافية التي يتضمنها الكتاب كشواهد على ابداعات ابو قاطع والناس الذين يعيشون في النص الذي يكتبه اكثر من همه بالنص ذاته. والاقتباسات المطولة والقصص والاعمدة الصحافية التي يتضمنها الكتاب كشواهد على ابداعات ابو قاطع اشبه بأحزمة نقل سريعة الحركة هدفها الوصول الى الشخوص بأسرع وقت والترجل عندهم بطقوسية بارزة، ثم إطالة التأمل في آلامهم واعلان التضامن "الثوري" بلا حدود مع فقرائهم. لكن الاحزمة الناقلة/ النص، وكذا التأمل في الناس سمته البارزة الحزن المجبول بسخرية مؤلمة تتأرجح بين الضحك المرير والشعور بالاختناق. فأبو قاطع، مثل سائر ابوات القواطع في مشرق ومغرب اوطان العرب، لم يكن ليستطيع قول كل ما يريد في بغداد من دون الاتكاء على التورية والترميز الساخر. ولم يكن له من خيار سوى التصاحب الدائم، في زاويته الصحافية اليومية، مع شخصيته الاسطورية/ الحقيقية "خلف الدوّاح" فيقوّله ما يريد ان يقول، وينسب اليه كل الممنوعات! وينصّبه واسطة للناس العاديين في الشوارع والدكاكين وباصات النقل العام الى الصحافة ليعلو صوته بزفراتهم. "خلف الدواح" هو حنظلة ابو قاطع، سميره وجليسه، حافظ اسراره وكاتم مغامراته، عينه واذنه على ما يدور في المخابز وبين سوّاقي السيارات، وكاتب تقاريره الحزبية عن تمدد الوعي الطبقي بين الفلاحين! وهو ايضاً الكتف الصلبة التي يرخي ابو قاطع رأسه عليها يوم اعدم ابن اخيه، حبيب الياسر، ولما يتجاوز الثامنة عشرة بسبب تبرعه بربع دينار للحزب الشيوعي! ولأبي قاطع ايضاً ام عباس كما لعبدالرحمن منيف ام رجب، و كما لغسان كنفاني ام سعد. وام عباسه قوية صارمة تحنو على عناصر الحزب الفارين وتعد لهم الطعام، وتهيئ لهم الراحة، وتشدّ على اياديهم. وأم عباس، ككل الامهات القاسية في روايات الحزبيين، هي في النهاية مناضلة حزبية اكثر من كونها أماً، تضمر فيها الامومة لصالح الحزب… وتتعرض لحرمان شديد من اظهار الحنين/ الضعف ولا يسمح لها بالبكاء! ابو قاطع صورة متكررة لمثقف عربي أثقله الهمّ وتشظت اصابعه على جمر الاستبداد حتى الاحتراق، فما كان لها ان تكتب بهدوء، وتأمل وابداع متحرر من الاستبداد الحكومي والحزبي في آن معاً، وهو صورة الاشعث الأغبر التي تتراءى في غير مكان وارض، يتنقل بالسر والعلن بين المكتبات، والمقاهي، والحانات او المساجد بحسب الانتماء، وينخرط في اللقاءات الحزبية وجدلها، ويمر بالمدن الجميلة وانهارها الرائقة غافلاً عن جمالها وتفاصيلها، اذ ينغرس فيه الهمّ كنصل حادٍ ينسيه بقية الحياة… واتساعها. ولأن ابو قاطع كان ببساطة ذاك الأشعث الأغبر والممثل الشرعي لمئات المهمومين فقد غرق فيه راصد سيرته عبدالحسين شعبان ووجد نفسه كأنه ينظر الى نفسه في المرآة، فيخاطبها ويتماهى فيها. ولأن السياسة والتحزب اقفلا اللغة على مصطلحاتهما فان ابو قاطع، وشعبان، والجمهرة العريضة ممن لفحهم طاعون الهمّ العام يجدون انفسهم محاصرين بلغتها وخطابها واستحكامها بأحلامهم كما بواقعهم. وحتى عندما يريدون الكتابة عن أمر جميل كالديموقراطية، ينزلق نصهم الى أسر خصمها، وهو حال ابو قاطع حين يكتب "… اذن فتجربتنا الديموقراطية "رائدة" وما اكثر الريادات والرواد في ايامنا هذه، واستطراداً أقول "الرائدة" هي مؤنث "رائد" الذي يحمل رتبة عسكرية اعلى درجة من "نقيب" واقل درجة من "مقدم" ولكي يصبح او يبلغ مرتبة "مهيب" يحتاج الى انقلاب عسكري ناجح"