تظل علاقة المملكة بالقضية الفلسطينية علاقة قديمة وعريقة وتاريخية تصل إلى حد الارتباط المصيري. فالقضية الفلسطينية تعتبر قضية المملكة الكبرى وهذا الوعي الإيماني بالقضية الفلسطينية متجذر في التراث السعودي. فقد أشارت مصادر كثيرة واتفقت على الاهتمام الحقيقي والمخلص الذي كان يوليه الملك عبدالعزيز للقضية الفلسطينية واعتباره إياها القضية المحورية. يقول وليم باول مؤلف كتاب (المملكة العربية السعودية وأسرتها الحاكمة): إن الهدف الرئيس من اجتماع الملك عبدالعزيز بالرئيس الأمريكي روزفلت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية كان هو العمل على تلافي الوضع المتردي في فلسطين الذي كان ينذر بأن اليهود سوف يحولون هجرتهم الفردية إلى استيطان جماعي واحتلال دائم. ويضيف باول: إن الملك عبدالعزيز قد أقنع روزفلت بأن يلتزم له شخصيًا بألا يتخذ قرارًا بشأن فلسطين إلا بعد التشاور معه شخصيًا. وكان رأي الملك عبدالعزيز الواضح والصريح والذي شرحه للرئيس روزفلت هو أننا كعرب نشعر بالأسف لما ألم باليهود من اضطهاد في أوربا غير أننا نشعر بأنه من غير العدل أن يصحح هذا الوضع على حساب عرب فلسطين وأن العرب ليسوا ملزمين بالتعويض عن أخطاء النازية وجرائمها وأنه إذا كان لابد من دولة يهودية فلتقم هذه الدولة في الأراضي الألمانية. ويقول هاري هوبكنز: لا ريب أن روزفلت كان يجهل تمامًا حقيقة الملك عبدالعزيز كملك مهيب وعربي شجاع لقد طلب إليه روزفلت أن يوافق على مجيء مهاجرين من اليهود إلى فلسطين فرفض الملك عبدالعزيز رفضًا قاطعًا قائلًا له: أنني بصفتي الدينية والسياسية سوف أكون في طليعة المحاربين إلى جانب إخواني في فلسطين. فإذا مانظرنا الى العلاقات السعودية - الأمريكية كأحد المحددات الرئيسية للخريطة الجيوبوليتكية في منطقة الشرق الأوسط والتي تعود إلى الثلث الأول من القرن العشرين نجد أنها ترتكز على محورين أساسيين هما: القضية الفلسطينية والموقف الاقتصادي العالمي لاسيما قضايا الطاقة. فحول هاتين القضيتين بدأت العلاقات السعودية - الأمريكية تتشكل وكانتا أهم رواسم ملامح هذه العلاقات وما تزالان قضية فلسطين والطاقة هما أهم ما يؤثر في صياغة واقع هذه العلاقات عامًا فعام وطورًا فطور وهي علاقات تتسم بالتفاعل على ضوء معطيات موضوعية تحدد سياسة كل من الدولتين والتي على ضوء مصلحتها العليا تترتب جميع مظاهر سلوكها السياسي ومن هنا طرأت جميع الظروف السياسية التي حدث فيها أن دخل العنصران معًا في تشكيل العلاقة السعودية - الأمريكية ليس على استقلال كل منهما عن الآخر ولكن على جعل أحدهما أداة ضغط لتحقيق رؤية الدولة للعنصر الآخر كما حدث بصورة واضحة في أثناء وبعد حرب أكتوبر عام 1973م بين العرب وإسرائيل عندما استخدمت المملكة ثقلها النفطي في انحيازها الواضح والطبيعي الذي يمليه عليها شعوره الديني والقومي إلى جانب القضية العربية قضية الشعب الفلسطيني في تحرك يقول كثير من المؤرخين بأنه كان أساسيًا. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن محور الطاقة كان هو السائد في فترة بداية نشوء العلاقات السعودية - الأمريكية ولكن تلك العلاقات الدبلوماسية كانت موجهة نحو غرض محدد وهو مصير فلسطين حيث أن تلك الفترة كانت تشهد الغزوة الصهيونية التي استهدفت فلسطين حيث بدأت جماعات اليهود بالهجرة المنظمة إلى فلسطين. وفي ذلك الوقت الذي كان الكثيرون غافلين فيه عن حجم وأبعاد هذه الغزوة كان أحد الزعماء يفكر بطريقة أخرى ويرى في تلك التحركات المريبة بداية لحركة استيطانية كبيرة تنذر باضطرابات واسعة تهدد المنطقة بأكملها.. كان هذا الزعيم هو الملك عبدالعزيز. وعندما أدرك الملك عبدالعزيز الخطر الشديد الذي يتربص بفلسطين كتب رسالة إلى فرانكلين روزفلت رئيس الولاياتالمتحدة وكان ذلك في 10 مارس 1945م يبلغه بخطورة الموقف وفداحة التحول الخطير الذي أقحموه على التاريخ العربي. ومن المدهش حقا أن تكون أفكار هذه الوثيقة ما تطالعنا به أحداث اليوم وكأنها الوثيقة كانت تتنبأ بكل مفاجآت الحاضر الأليم. فالحس السياسي الذي كان وراء العلاقات السعودية - الأمريكية من الجانب السعودي كان يستشعر إلى جانب المصلحة الوطنية القضية الفلسطينية التي تنظر إلى الوطن في إطار الوطن العربي الكبير وتؤمن تمامًا بأن الخطر الذي يتهدد إحدى بقاع هذا الوطن الكبير إنما هو بادرة ونذير بخطر أكبر يمكن ان يمتد إلى بقية الوطن العربي وهذه رؤية بعيدة ومستوعبة في وقت لم يكن فيه الخطر الصهيوني قد تبدت جميع جوانبه بعد. وموقف آخر للمملكة مع القضية الفلسطينية فعندما عرضت بعض الدول الكبرى على المملكة الانضمام إلى عصبة الأمم بتخصيص مقعد لها مع الأعضاء المؤسسين؛ إلا أن موقف المملكة من هذا العرض كان هو الرفض، لأن ميثاق عصبة الأمم ينص صراحة على استمرار الانتداب على الأراضي العربية. ورغمًا عن كون المملكة -وقتئذ- دولة مستقلة ذات سيادة فإنها رفضت الانضمام إلى منظمة يقتضي الانضمام إليها التوقيع على ميثاق ينص على فرض الوصاية على أشقاء عرب. وعندما انهارت العصبة بعد الحرب العالمية وقامت منظمة الأممالمتحدة لم تترد المملكة في الانضمام إلى المنظمة عضوًا مؤسسًا من الموقعين الأصليين على الميثاق. واليوم عندما نقف على واقع العلاقات السعودية - الفلسطينية ندرك حجم النقلة النوعية التي قام بها الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- والتي تحولت فيه العلاقة مع القضية الفلسطينية إلى تفاعل خلاق. فقد كان - حفظه الله - ينظر الى القضية الفلسطينية من منظار روحي ووطني ونفسي وعاطفي وإنساني فقد وضع -حفظه الله- أنظاره -منذ وقت مبكر- على القضية الفلسطينية وارتبط بها ارتباط نشأة والتزام باعتباره أكبر نصير للقضية الفلسطينية. وقد عرف الأمير محمد بن سلمان بموقفه الثابت من القضية الفلسطينية ودفاعه الرصين عنها والذي ينطلق فيه - حفظه الله - من ثقة بالنفس وثقة بعدالة وعقلانية القضية الفلسطينية ومن وعي بالحقائق على أرض الواقع بقضية تقوم على الحق والعدل والمنطق وقد أعلن – حفظه الله – بوضوح بانه مع القضية الفلسطينية. فالانحياز للقضية الفلسطينية واجب عملي وأخلاقي وشرعي، فالقضية الثابت الحقيقي في الضمير والاستراتيجية السعودية. لا أعتقد أن أي إنسان يحتاج إلى تفكير قليل أو كثير لكي يصل إلى حقيقة أن فلسطين عربية إسلامية فكل ما تزعمه وتدعيه إسرائيل حول فلسطين لا يقوم على حقائق ثابتة وأمور يقينية وإنما على مزاعم وأهواء وأوهام تنقضها الحقائق وتتداعى أمام الواقع والتاريخ. فالقضية الفلسطينية والقدس بشكل خاص قضية عادلة وعقلانية تستند على حجج قوية قاطعة إلا أننا كعرب لا ننطلق من ثقة بالنفس بعدالة وعقلانية قضيتنا ومن قدرة على الاستخدام الأمثل للحقائق والتعرف على نهج تفكير خصمنا وكشف زيف أفكاره وإبراز تناقضاته فخطورة أسرائيل على العالم العربي أبعد بكثير مما نتصور فالتوافق بين عالم إسرائيل والعالم العربي أمرًا مستحيلًا. فالنظام الذي يتأسس على أطروحة تفوق عرقي وفصل عنصري وتقسيم الناس على أساس حقوقهم لهو نظام ظالم مهما حاول أن يتذرع بالعلل والحيل المرحلية في تبرير ظلمه الذي يناقض فطرة البشر في قضية واضحة وبسيطة ومحاولة طمس معالمها الواضحة. واليوم أصبح الغرب يضع نفسه المرجع الوحيد في تقرير الخطأ والصواب اتجاه قضية فلسطين رغم ازدرائه للقرارات التي صدرت حول هذه القضية. وهذا يضعنا أمام حقيقة مدهشة وهي أن ضمير وثقافة الغرب لا تقوم على أساس الأخلاق والقانون والقيم والإنسانية وإنما على المصلحة والقوة والأهواء السياسية وهذا يفضي بنا إلى فحص الأمانة السياسية التي لم يتحل بها الغرب. وقد لا يبعث سجل الغرب على الأمل أو على الأقل قد يكون تاريخ العلاقة مع الغرب غير مشجع على الإسراف في الأمل أو الإفراط في الثقة. فالأزمة التي يعيشها الغرب اليوم تتمثل في وجود فجوة ما بين الالتزام بالميثاق والمبادئ العادلة وبين السلوك الملتوي الذي يقوم على المصلحة والقوة، ولذلك فإن المجتمع العربي ومعه المجتمع الإسلامي يبدون شعورًا بالتشاؤم وخيبة الأمل نحو تصرف الغرب حيال قضايانا. صور كثيرة تعطينا انطباعًا واضحًا للغرب أبرزها قضية فلسطين. فليست المشكلة أن الغرب فقد مصداقيته في قضايانا، فهو أصلًا لم يصنع لنفسه هذه المصداقية ابتداءً، لذلك فقد صار عاديًا أن يستخدم السياسيون الغربيون مهاراتهم في المناورة في القضايا ذات الطابع الإنساني والأخلاقي. وبالرغم من استناد السياسيين الغربيين على القيم الأخلاقية وإلى القانون الدولي في تبرير سلوكهم في العلاقات الدولية المعاصرة فإن الواقع كما هو معروف وكما تقرره العلاقات الدولية المعاصرة يقوم على المصلحة والقوة ولا يقوم على الأخلاق والقانون. [وإذ يبدو اليوم بديهيًا في الغرب انفصال الأخلاق عن السياسة ليس نتيجة تناقض أصلي بين الأخلاق والسياسة بقدر ما هو ترتيبات أصلتها النزعة المادية التي حكمت الغرب في كل علاقاته. ذلك أن البنية المادية التي تتحكم في رؤية السياسات والمصالح جعلت الغرب ينظر للسياسة بعيدًا عن الأخلاق ما يعني ضمنًا أن هوية الصراع الذي تأسست عليه الحضارة المادية الغربية هي التي تتحكم في رؤية الدول، وهذا يدلل على أن الثقافة الغربية لا تنجح دائمًا في اختبار الالتزام بالمبادئ والقيم]. علينا أن نحسن التعامل مع قضية فلسطين كقضية وطن معنوي ومادي وديني وأخلاقي وإنساني وحقوق ومقدسات وشعب. فهل نرى أفقًا لهذا التعامل في إطار الأخلاق الإنسانية لا في إطار المصالح وموازين القوي؟