كان عدد من الصحفيين والكتاب والفنانين يسهرون في كازينو بديعة، وهو فندق شيراتون الآن، وكنا في صيف عام 1953، وأقبل المطرب عبدالغني السيد، وكان يومئذ مطربًا مشهورًا معروفًا بخفة الدم محبوبًا من الصحفيين وإذا به يصيح بصوت عال يدوي في هدوء الساعة الثانية صباحًا: سأتوقف عن الغناء نهائيًا! وذهل الجالسون لهذا التصريح العجيب وسألوه: ماذا حدث؟ قال المطرب عبدالغني السيد: لكل زمان، رجال، إنني قادم الآن من سهرة أقامتها الشؤون العامة للقوات المسلحة، دعي فيها جمع للغناء، ووقف مغن جديد اسمه عبدالحليم حافظ وغنى أغنية «على قد الشوق» وبعد دقائق كان الجمهور يردد معه على قد الشوق، سيطر على الناس فجأة وملك أسماعهم، وغنينا بعده فلم يحس بنا أحد، وعرفنا أننا انتهينا... وبدأ! ومن هذا اليوم لم تقم قائمة للمطرب الظريف عبدالغني السيد وبدأ عبدالحليم حافظ يكبر كل يوم! ودخل مكتبي في «أخبار اليوم» شاب صغير دقيق متواضع وقال: «أنا عبدالحليم حافظ» كان حجمه الصغير يخفي حقيقة عمره فتصورت أنه في الخامسة عشرة من عمره، وقال لي: «جئت إليك أطلب مشورتك، ماذا أفعل لأنجح ؟» قلت له: لا تقلد أحدًا.. كن عبدالحليم حافظ فقط، كل من قلدوا عبدالوهاب ماتوا، كانوا يقلدونه في كل شيء في عوجة طربوشه، في صوته، في ملابسه، حتى في السوالف التي كان يتركها من شعره فوق خديه، وماتوا جميعًا وعاش عبدالوهاب. وتصورت أنني قدمت لعبدالحليم أعظم نصيحة وإذا بي أكتشف أنني قدمت له مصيبة، تعاقد مع المتعهد صديق القومي أحمد على أن يغني 30 ليلة في المسرح بالإسكندرية، وقف يغني «يا حلو يا أسمر» و «صافيني مرة» وهي من أغاني كمال الطويل، وإذا بالجمهور يصيح طالبًا منه أن يغني أغاني محمد عبدالوهاب وأصر على أغانيه هو، وقاطعه الجمهور، وضربه بالبيض والطماطم وصعدوا إلى المسرح وأنزلوه منه وسط هتاف الجماهير «انزل! انزل». ونزل وهو يبكي وركب سيارة صديقه مجدي العمروسي المحامي الذي انطلق به إلى ضواحي الإسكندرية البعيدة وهو يبكي وينتحب معتقدًا أن الجمهور حكم عليه بالإعدام ! ولكنه لم ييأس، واستمر يقاوم ويحاول ويشقى ويصر ألا يغني سوى أغانيه ! وعندما التقيت بعبدالحليم أول مرة سألته من هو المطرب الذي يتمنى أن يكون مثله؟ فقال لي إنه المطرب عبدالعزيز محمود، ولم يذكر لي عبدالوهاب يومئذ، وكان يردد بعض أغانيه عندما كان وحده، ولم يحدث أبدًا أن غنى أغاني عبدالوهاب في وجود غرباء. استوقفني في عبدالحليم أنه مملوء بالإحساس ويغني على قدر صوته وفي هدوء هذا الصوت وكان في صوته الضعيف كل الشجن والألم والحزن الذي يملأ قلبه، عندما غنى في مكتبي لم يكن يغني للناس وإنما يغني لنفسه، لم يكن يقصد أن يطرب الجالسين بل كان يتألم بصوت مسموع. ولاحظت بعد ذلك أنه قلد أم كلثوم في أعظم ما فيها، كان لا يغني أي لحن إلا بعد أن يسأل أصدقاءه ويستشير من يثق بهم، وكان يعدل ويبدل في الكلمات؛ أذكر أنه دفع 2500 جنيه فاتورة تليفونات محادثات خارجية مع الشاعر نزار قباني، يتابعه من الكويت إلى بيروت إلى باريس ليعدل كلمتين أو ثلاث كلمات في أغنية قارئة الفنجان. وحرص عبدالحليم عند ظهوره أن يختار كلمات أغانيه فعندما ظهر كان الموسيقار عبدالوهاب يغني أغنية «تراعيني قيراط أراعيك قيراطين» وكان عبدالعزيز محمود أكثر المطربين شعبية يغني «يا شبشب الهنا.. ياريتني كنت أنا» وجاء عبدالحليم يغني كلمات لها معنى ومغزى وعاطفة حارة! وحرص عبدالحليم أن يكسر تقاليد غناء الرجال، فكان أول مطرب رجل يقف على المسرح ويغني وكان الذين سبقوه يجلسون على كرسي ويضعون عودًا فوق أقدامهم، حتى ولو كانوا لا يعرفون العزف على العود، كذلك كان يغني قبله فريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب وعبدالعزيز محمود وكارم محمود ومحمد فوزي، وبعده بدأ المطربون القاعدون يقفون حتى فريد الأطرش الذي كان أحسن عواد في مصر. ثم قلب عبدالحليم المسرح الغنائي من مسرح مسموع إلى مسرح مرئي ومسموع صوتًا وصورة في وقت واحد، فكان يغني ويتحرك، يعزف على الرق ثم يمسك الناي يصفق بيديه ويصفر بفمه، يضحك، يخلع الجاكتة، يخلع الكرافتة، يجلس على خشبة المسرح ويحمل طفلة جميلة من الصالة ويأخذها معه إلى المسرح ويغني لها. وكان الموسيقار عبدالوهاب يقول: الواد ده ناقص عليه يجيب ساندوتش ويأكله على المسرح! في سنة 1956 كان عبدالحليم يتعشى عندي ومعه كمال الطويل ومجدي العمروسي وبعض الأصدقاء وبعد العشاء جلسنا في غرفة المكتب نتحدث ونتناقش، وارتفع صوتنا ولاحظت أن كمال الطويل كان وسط هذه الضوضاء يدق على كتف المقعد بأصابعه ويلحن أغنية «بتلموني ليه.. لو شفتم عينيه.. حلوين قد إيه» لم يكن يعتمد على آلة موسيقية ولا على بيانو ولا على عود، وإنما كانت أصابعه هي التي تعزف هذا اللحن الرائع البديع وكان عبدالحليم يأكله بنظراته ويتابعه بأذنه، ولم أر عبدالحليم مهتمًا بلحن كاهتمامه بهذا اللحن. 1982* * كاتب صحافي مصري «1914-1997».