دائما ما يكون الوقوع في شرك تفسير المصطلحات شائكا ويحتاج خفة التنقل بين الاتزان في الحكم على الأشياء ووجهات النظر الشخصية، خفة من يسير في حقل ألغام وهو يلقي بصره حوله ولا ينظر لموضع خُطاه. فحين نتحدث على سبيل المثال عن الإنسان «الكفؤ» أو صاحب الكفاءة في أي مكان يوضع فيه؛ وبين الآخر الذي قد نصمه بالتفاهة والسذاجة فإن هذه الأحكام غالبا ما تصدر عن انطباع ذاتي ورأي شخصي أكثر من أن تكون رأيا يتبع منهجية علمية موثوقة. فنحن كبشر بطبيعتنا البدائية الأولى نميل لإطلاق الأحكام على الآخرين؛ هذه الأحكام تأخذ الغالب جانبا سلبيا، وتوقعات غير مبررة مردها رغبة الطرف المطلق للأحكام أن يكون الآخرون مماثلين له؛ مثله في تفكيره، في مظهره، في رؤاه ورؤيته للحياة، والأهم في ما يستحقه. لهذا أصبح استحقاق الشخص لكثير مما يحدث له ومعه، كمنصب وظيفي، أو حال اجتماعي، وما شابههما، يرتبط لدى الناس المحيطة في مجتمعه بكفاءته أو تفاهته، نقيضان لا يجتمعان ويوزعان مجانا من أي أحد على أي أحد. لكن المعيار الذي يمكننا بالفعل من قياس مدى كفاءة شخص أو تفاهته غائب ولا وجود منطقي له. وكمثال حاضر- بين الكفاءة والتفاهة- مما يحدث حولنا حدثان لافتان سمعنا بهما مؤخرا؛ الأول الفتاة التي كلفها وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في لحظة ارتجال– كما ظهر للجميع- بتولي منصب رئاسة قسم الإعلام بفرع الوزارة بمنطقة مكة عوضا عن زميلها الحاضر وقتها، والذي تبين أنه تم نقله هو الآخر لقسم الحاسب، والحكم والمحك في هذا الارتجال الوظيفي هو الشهادة التخصصية التي يحملها كل واحد منهما بغض النظر عن جوانب أخرى قد تكون لها آليات لا يعلمها العامة من القراء والمتابعين لكنها تثير التساؤل الحاد والبسيط عن مدى كفاءة كل منهما لمنصبه الجديد، وعن معايير تلك الكفاءة التي أخشى- بشكل شخصي- أن يُساء فهما إن لم يكن قد أسيء بالفعل، وتقحم فيه مفردات التمكين والإمكانات والأنوثة. وهي تساؤلات بقدر بساطتها إلا أنها حق مشروع للطرفين، للمعني سلامة له من الظنون، وللسائل لفهم كيف تسير الأمور في الحياة اليوم، وكيف يمكن أن يكون ذا كفاءة لمكان يعتقد أنه يستحقه ولا يقصيه عن هذا الاستحقاق إلا خيارات لم يكن له فيها يد. الحدث الآخر الذي نستطيع أن نثير حوله تساؤلات الكفاءة والتفاهة هو ما اجتمع عليه مجموعة من الأشخاص في ملتقى إعلامي- تبرأت منه الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع- تم فيه تكريم عدد ممن وصفوا بالإعلاميين والمؤثرين في عالم التواصل الاجتماعي، وبحضور عدد من الشخصيات الاعتبارية دون أدنى استنكار لمن يغلب على طرحهم التفاهة (وهنا نعود لإشكالية معنى التفاهة)، ومن يكون تأثيرهم اجتماعيا في نقل تفاصيل حياتهم الخاصة والمنفعة من مؤشرات المتابعة من أصحاب الأحكام على هذه الحياة في تحقيق دخل خاص، فهم- هؤلاء المؤثرون- مع موجة الاستنكار التي قوبل بها تكريم كثير منهم واستغلال اسم وزارة الإعلام في هذا الملتقى إلا أن درجة استحقاقهم عالية، وحصولهم على التقدير، والمناصب أكثر بكثير من غيرهم الذي يكون على قدر كاف من الكفاية المهنية والعلمية ولكنه آثر ألا تكون حياته مشاعا مباحا للعامة، وألا يكون مهرجا بضاعته الكلام والجسد. ولأن الإنسان من غرائزه الطبيعية محبة أن يكون مقدرا، وأن يكون في مستوى معيشي مرتفع، وأن يكون حضوره فارقا وكلمته مسموعة ورأيه له اعتباره؛ فإن ما يراه اليوم مع غياب القيم السامية قد يقنعه أن التفاهة - مهما كان تفسيرها- أسهل للوصول لما يستحق وما يريد من الكفاءة التي ينبغي أن يكون عليها في مجاله ومسار حياته. وكأن المعادلة اليوم تقول: كن تافها لتستحق الأفضل! وبسبب التفاهة وحدها أخشى -كما خشي كارلوس زافون- من فناء العالم قريبا لا بسبب قنبلة نووية بل «بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحول العالم إلى نكتة سخيفة».