حالات لافتةٌ للانتباه نعايشها ونقرأ عنها يوميّاً، لدرجة أنَّها أصبحتْ -بحسب متابعاتي لها- ظاهرةً تستحقُّ الوقوفَ عندها ودراستها، دراسة لا يتمكَّن منها علميّاً إلا متخصِّصو علم النفس، بل وفي تخصُّص عميقٍ دقيق منه، ولكن رأيتُ أن أطرح في مقالي هذا عنها ملاحظاتٍ وأفكاراً لعلَّها أن تكون منبِّهاتٍ لمن يمارسونها في حياتهم، أو حافزات للمختصِّين لدراستها، ففي الشوارع المزدحمة بالمرور وعند إشارات المرور تتعالى أصواتُ منبِّهات السيَّارات احتجاجاً، وحين يستنكرها المنزعجون منها بنظراتهم فقط تجاه مصدريها تأتي ردود فعل زيادة فيها أو باعتداءات لفظيَّة إن لم تصل لحدِّ الفعل من أصحابها تجاه المنزعجين منها، ظاهرةٌ واسعة وليست حالاتٍ تحدثُ أحياناً، وفي طوابير الانتظار وترتيب الأولويَّة عند المخابز الشعبيَّة وأمام محاسبي المجمَّعات التجاريَّة، وأمام عيادات المستشفيات وفي غيرها كثيراً ما تحدث احتكاكات انفعاليَّة لفظيَّة يتطوَّر بعضها لملاسناتٍ ولاعتداءات وعنف بل منها ما وصل للأطبَّاء في عياداتهم، وفي المدارس بين الطلاَّب في فسحهم وفي فصولهم وبعد انصرافهم من مدارسهم تحدث احتكاكاتٌ انفعاليَّة يتطوَّر بعضُها لمضاربات يستدعي بعضٌ منها تدخُّل الشرطة، ويحدث شيءٌ من ذلك بين طلابٍ وبعض معلِّميهم، وبين أولياء أمور ومعلِّمي أبنائهم، وفي البيوت فيما بين الزوجين وبحضور أولادهم تحدث احتكاكاتٌ انفعاليَّة يصل بعضها إلى العنف الجسدي أو إلى الطلاق أو الهجران، ومسبِّبات ذلك تافهة تظهر تفاهتها في حالات الندم الكثيرة، ويحتكُّ الإخوة فيما بينهم انفعاليّاً سواءٌ أكانوا صغاراً أم كانوا كباراً وبين الأبناء والبنات أيضاً. وفي الحوارات في المنتديات والمجالس والقنوات الفضائيَّة بين من يصنِّفون أنفسهم بالمثقَّفين تظهر الحالاتُ الانفعاليَّة التي تتطوَّر للإقصاء والسبِّ والشتم واتِّخاذ المواقف التصنيفيَّة، بل وقد تجرُّ تلك لتحزَّباتٍ ومشاركاتٍ بالانفعالات من الحضور، ولعلَّ ما حدث في بهو الفندق المستضيف ضيوفَ وزارة الثقافة والإعلام لمعرض الرياض الدوليِّ للكتاب في العام الماضي مثال صارخ، ففي تأبينيَّة الروائي الأستاذ إبراهيم الحميدان – يرحمه الله تعالى – وقعت مشادَّةٌ انفعاليَّة بين الروائي الأستاذ عبده خال والناقد الروائي الأستاذ زياد السالم ما كان لها أن تقع، بل وانفضَّ السامرُ بعد أن رفض المنفعلان إنهاء الموقف الانفعالي بالمصافحة، بلَّ إنَّ كثيراً من فعاليَّات الأندية الأدبيَّة الحواريَّة يحدث فيها مثل ذلك وأشدُّ انفعالاً وكثيراً ما جرَّتْ لمواقف أدَّت لاستقالات وانسحابات من مجالس إداراتها ومن جمعيَّاتها العموميَّة، ويمتدُّ ذلك إلى مقالات الصحف والتعليقات عليها، وكثيراً ما يجد المتابع المحايد ألاَّ مجالَ لمعظم الانفعالات المكتوبة بل ويستغرب حدوثها فكتابتها، بل إنَّ المنفعلين بعد حدوثها ومراجعتهم أنفسهم لا يجدون مبرِّرات لانفعالاتهم أو لاشتدادها، ويحدث في مجالس إدارات الجمعيَّات واللجان التطوُّعيَّة مواقف انفعاليَّة تعطِّل أهدافها وأعمالها، بل وتظهر مواقف انفعاليَّة في مناسباتٍ للأفراح، بل وفي المقابر وفي مجالس العزاء، وفي المجالس والاستراحات بين الأصحاب تحدث مواقف انفعاليَّة تؤدِّي للتنافر والتباعد، ومنها ما أوصل إلى القتل أو لاستخدام السلاح الأبيض، ومن جرائم القتل ما حدث في أعقاب مواقف انفعاليَّة ندم القتلة بعدها ولكن ماذا يفيد الندم؟!. أجاب – عليه الصلاة والسلام – رجلاً قال له: يا رسول الله قل لي قولاً وأقللْ لعلي أعقله، قال: «لا تغضب»، فكرَّر طلبه مراراً؛ ليعيد – عليه الصلاة والسلام – إجابته نفسها «لا تغضب»؛ وفي موقف آخر وجَّه – عليه الصلاة والسلام – أصحابه بقوله: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب»، لأنَّ الغضب جماع الشر، وخلق أحمق، وتصرُّف أهوج، نار في الفؤاد وتوتُّر في الأعصاب وحمق في التصرَّف، ومسارعة للانتقام، ومبادرة للتشفي، آثاره أليمة وعواقبه وخيمة؛ لذلك امتدح الله تعالى عباده المؤمنين بقوله:{وإذا ما غضبوا هم يغفرون}، الشورى، آية 37، وقال تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناسِ والله يحبُّ المحسنين}، آل عمران آية 134. حاورتُ متخصصين في علم النفس حول ظاهرة الانفعالات اللافتة لانتباهي في المجتمع السُّعوديِّ فعرفتُ أنَّ سرعة التأثر المؤدِّية لزيادة الحركة أو للعنف الكلاميِّ أو الفعليِّ سمةٌ للشخصيَّة الانفعاليَّة، التي تبرز عادةً منذ الطفولة، على أنها قد تبدأ أو تتعزَّز في المراهقة والشباب بسبب تجارب حياتية نفسيَّة وماديَّة وصحيَّة، فينفعل أفرادٌ بسرعة ودائماً لأتفه الأمور، فالإرهاق الجسميُّ والنفسيُّ والفشل في تحقيق الأهداف مهيئات للانفعال، ولانخفاض السكر في الدم أو لزيادة إفراز الغدة الدرقية تأثير في ذلك، ويقتضي هذا التفريق بين ما هي شخصية انفعالية بالأساس، وبين حالات انفعاليَّة ناجمة عن مواقف حياتيَّة. وذو الشخصيَّة الانفعاليَّة قد يكون بشخصيَّة عاطفيَّة يتعامل مع الآخرين ومع الحياة بعاطفته لا بعقله فيغلِّب في حالة التضارب بينهما العاطفة على العقل؛ لذلك فأقواله وأفعاله تتسم بالمزاجية والاندفاع، فهو شديد الحساسية ومرهف الشعور لما يجري حوله، يحمِّل نفسَه مجالاً أوسع من التحسُّس بموقعه الحياتيِّ وعلاقاته مع الآخرين، ولهذا فانفعالاته لا تنحصر في قضاياه الشخصيَّة بل تمتدُّ إلى القضايا العامة والإنسانيَّة وفي تفسيره التفاوت بين الأفراد، وللمناخ والتغذية والتربية والتقاليد ومدى توفر الفرص والمنافذ للتنفيس عن الضغوطات النفسية أو امتصاصها وتبديدها تأثير في ذلك. وتزداد الانفعالات للشخصيَّة الانفعاليَّة العاطفيَّة بتعزيزها بالشخصيَّة القلقة التي يغلب عليها شعور صاحبها بعدم الارتياح وتوقُّع الخطر من مصدر ما، غير أنَّ ردود الفعل أكثر شدة وإقلاقاً للفرد مما يقتضيه الوضع المثير للقلق، لهذا فصاحبها في حالة استعداد وتحفز دائمين توقياً للخطر وتأهباً لملاقاته وتجنباً له، وهو يخشى القيام بأيِّ عمل يتطلَّب تحمُّل المسؤوليَّة، حريص على الاحتفاظ بمكانته الاجتماعيَّة، ويخشى ممَّا يثير الشك في مقوماته الخُلُقِيَّة، وعموماً فالتحسُّس بالقلق ضرورة حياتيَّة تقتضيها علاقة الفرد بالآخرين لِتمكِّنه من الحذر والتهيؤ للدفاع عن النفس، فإذا ما ازداد تحسُّس الفرد بالقلق فسيؤدي ذلك لإصابته بمرض القلق النفسيِّ، وسيبدو بشخصيَّة انفعاليَّة عاطفيَّة قلقة تندم دائماً على مواقفها الانفعاليَّة.